«لكن يا علي يا عليأين تجد هنا أرضاً
لرأسٍ طليق ويدين حرّتين...»
عباس بيضون



في حزيران (يونيو) 2016، أطلقت محلات ZARA مجموعتها لملابس الصيف، كان من بينها فستانٌ أزرق واسعٌ وقصير، لطيف وجذاب جداً، وكان مناسباً لاشتداد الحرّ في ذلك الحين. سرعان ما احتلّ الفستان مكاناً لوقت طويل في واجهات الفروع الكثيرة للمتجر في لبنان.
بين هذه الفروع، كان هناك واحدٌ في مدخل المبنى الذي تقع فيه مكاتب الصحيفة. كنا محظيّين حقاً، قبل أن نفقد هذا الامتياز مع انتقال المحل إلى المول الذي افتُتح حديثاً في مكانٍ قريب، لينضمّ إلى زملائه من الماركات في المجمّع (بالمناسبة، يبدو أن أحدهم كابد الحنين إلى درجة أنه كتب بالرذاذ على حائط المبنى بالإنكليزية «إنني مشتاق لـ ZARA»، نعم). ولضيق وقت الزملاء والزميلات خصوصاً، كان كثير منّا يشتري معظم ملابسه من هذا المحلّ، أثناء دخولنا أو مغادرتنا المكاتب، بحسب ما تُمكّننا ميزانياتنا الخاصة المحدودة طبعاً.
لم أنجُ من جاذبية هذا الفستان في حينه. اشتريتُه بخمسين دولاراً على ما أذكر، ولبسته على الفور، وفي الواقع لقد كان مريحاً ومناسباً للقيظ المميت في ذلك الوقت، حين وصلت درجات الحرارة إلى حدّ إشعار المرء بأنه يسير في الشارع ممرّراً وجهه على عوادم السيارات.
لكنني مع الأسف الشديد لم أرتدِه إلا مرتين أو ثلاثاً فقط، إذ حصل ما لم أكن أتوقّعه. في اليوم التالي من شرائه وأثناء مروري في منطقة فردان، التقيتُ بفتاتين تلبسان نفسه. واحدة ابتسمت لي بمنتهى اللطف دلالةً على تواطؤ ما يُخفي شعور الحرج الذي انتاب كلينا على الأرجح وسط أنظار المارّة. لكن الأخرى ما إن وقعت عيناها عليّ، حتى أشاحت بوجهها إنكاراً منها ربما لوقوع هذه الحادثة الأليمة في الشارع وفي وضح النهار.
منذ ذلك اليوم وعلى مدى أشهر الصيف الثلاثة من ذلك العام، ومن دون مبالغة، تكررت مصادفتي لفتيات يرتدين هذا الفستان بصورةٍ شبه يومية. الأمر لم يقتصر على بيروت فقط. على فايسبوك عدد من الصديقات تصوّرن بالفستان نفسه في صورٍ لم يفرّق بينها إلا مقاييس أجسادهن المتنوعة. حتى إننا ظللنا، صديقي وأنا، نتبادل صوراً تصادفنا على الموقع لنساء تصوّرن بالفستان نفسه، منهنّ من كانت في مصر، وأخرى في دبي وواحدة في إسبانيا. ما مثّل مادة سخرية لأسابيع بيننا، في وقتٍ كانت «نسختي» من الفستان قد حجزت مكانها في الخزانة التي لم تفارقها منذ ذلك الحين.
تذكرت هذا الأمر بعدما أثير نقاش الصورة التي نشرتها المذيعة ديمة صادق عن الفتاة السافرة القارئة بين جماعة من النساء المنتقبات (وبالمناسبة لا أدري لماذا تحوّل النقاش إلى الحجاب تحديداً).
ثنائية الجماعة والفرد، التبعية والتميّز، الاستلاب والحرية الشخصية، كلها ثيمات ممكن أن تُثار من الصورة المنشورة ومن النقاش الذي تبعها. لكن الزاوية المثيرة للاهتمام من هذا النقاش تبقى اعتبار الملبس دلالة قطعية على حرية الإنسان بالمعنى الاجتماعي والسياسي للكلمة. وإذا وضعنا تجربة الزيّ الموحد الذي يبدو في الصورة الشهيرة، مقابل تجربتي المذكورة في شراء فستان لم يكن من المفترض أن يكون زيّاً موحداً أبداً، نلاحظ مفارقة مثيرة للاهتمام.
على تفاهة الموضوع، من المرات القليلة التي شعرتُ بها بتدنٍّ في مقدار «ذاتيتي» كانت حين صادفتُ نساءً يلبسن نفس ما ألبس في الشارع. لبرهةٍ، يشعر المرء أنه روبوت أو شخصية في إحدى الروايات الديستوبية عن الأنظمة الشمولية. عدائية آتية من مصدرٍ مجهول كأنها قوة فوق الطبيعة. يشعر أن هناك جهةً تفوقه قوة استدرجته وتصيّدته لجعله نسخةً من الآخرين، فيما هو صاغرٌ لكونه مغيّباً تماماً. في تلك اللحظة يشعر أن جميع التقسيمات تافهة جداً بالمقارنة مع تقسيم البائع/ المستهلك.
في نظريته الفريدة عن الموضة، يرى عالم الاجتماع الماركسي الفرنسي، بيار بورديو، أننا «ضحايا» آليات اجتماعية غير واعية، تكرّس هيمنة الطبقات العليا لإطالة هيمنتها. تقع الموضة في نظريته، ضمن حقل «العنف الرمزي» الذي يمثّل جانباً من الصراع الطبقي، وهو أكثر خطورةً برأي بورديو من باقي أنواع العنف المادي والسلطوي لأنه ببساطة عنف غير مُعترَف به مجتمعياً. فالمفكر الذي لام على الماركسية اكتفاءها بالعوامل الاقتصادية لتشريح هذا الصراع، يرى أن الموضة التي تعكس علاقات القوة في المجتمع والتي هي أحد مظاهر الاستلاب، هي من العوامل الثقافية لهذا الصراع.
هل هناك فرق بين الفستان الأزرق والزيّ الموحّد في مجتمع لا يراني سوى نسخة استهلاكية شبه آلية؟


يقول بورديو في كتابه «نحو أنثروبولوجيا تأملية»، إن «العنف الرمزي يمكنه أن يحقق نتائج أفضل مقارنةً بما يحققه العنف السياسي والبوليسي (...) العنف الرمزي هو ذلك الشكل من العنف الذي يمارس على فاعل اجتماعي ما بموافقته وتواطئه. ولهذه المسألة نتائج كبيرة على النقاش الفكري الدائر حول ما إذا كانت السلطة تنبثق من تحت، وحول ما إذا كان الشخص الخاضع للسيطرة يرغب في هذه الوضعية المفروضة عليه (...) هناك قدر من الإنكار في التعرف إلى العنف الذي يمارَس على المرء مع عدم الاعتراف به كعنف... انطلاقاً من كوننا نولد في عالم اجتماعي، نتقبّل عدداً من البديهيات والمسلّمات التي تفرض نفسها علينا بتلقائية وسهولة، ولا تكاد تتطلّب تلقيناً. ولذلك، فإن تحليل كيفيات تقبّلنا التلقائي للآراء والمعتقدات المتداولة في عالمنا الاجتماعي، هو الأساس الحقيقي لنظرية واقعية حول السيطرة وحول السياسة، بسبب التوافق المباشر بين البنيات الموضوعية والبنيات الذهنية. إن من بين كل أشكال الإقناع الصامت والسري هو ذلك الذي يتم بكل بساطة بفعل النظام العادي للأشياء».
«النظام العادي للأشياء» هنا جوهر المسألة. من البديهي رفض الزيّ الموحّد مهما كان شكله، دينياً أو عسكرياً. هذا من المفترض أن نكون قد تجاوزناه منذ زمن. لكن ما يبدو ليس بديهياً بعد، وما يعود إلى الظهور عند كل نقاش من هذا النوع، هو «تصديق» البعض أنّ أنماطاً وأشكالاً اجتماعية معيّنة، دون أخرى، تدلّ على حرية شخصية واجتماعية وتصون استقلالية الفرد وتميّزه.
حادثة «الفستان الأزرق»، لم تحصل في دولةٍ دينية ولا في دولةٍ اشتراكية في ستينيات القرن الماضي. الأمر حدث في بيروت، مدينة شبه كوزموبوليتية تتمتع بانفتاحٍ كبير نسبياً، ولكنها أسيرة نظام نيوليبرالي يوهم الفرد بتفرّده، لكنه يحوّله مع الآخرين إلى مسخٍ استهلاكي.
هذا ليس لتبرير نمط اجتماعي معيّن، خصوصاً أن المرأة هي الضحية الأولى للعنف المباشر وغير المباشر في جميع الأحوال. ولكن هذا مجرّد وقفةٍ وتساؤل في ظلّ النظام الاقتصادي المهيمن، عما إذا كان في نهاية الأمر، ثمة فرق حقيقي بين المول والثكنة، الفستان الأزرق والزيّ الموحّد، السافرة والمحجبة، في مجتمع لا يراني سوى نسخة استهلاكية شبه آلية.