قبل سنوات، وسّعت «نتفليكس» رقعة عملها لتشمل عشرات البلدان حول العالم. يومها، وتحديداً في تشرين الأوّل (أكتوبر) 2016، رفضت الشبكة الأميركية المتخصصة في إنتاج وبث المحتوى الترفيهي عبر تقنية التدفّق الإلكتروني، العمل في الصين. خطوة رآها مراقبون محاولة لتجنّب المشاكل في «بيئة رقابية فيها الكثير من الصعوبات والتحديات». لكن ها هي المنصّة الرائدة في مجال الـ «ستريمينغ» تخضع لإرادة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، حامل راية «الإصلاح والانفتاح». إذ تضجّ وسائل الإعلام العربية والغربية بخبر حذف «نتفليكس» للحلقة الثانية من برنامجها الأسبوعي الساخر Patriot Act with Hasan Minhaj، بحيث لم تعد متوافرة للعرض عبر منصّتها داخل السعودية، على الرغم من توافرها على قناة البرنامج الرسمية على يوتيوب في المملكة. يبدو أنّ الحلقة التي عُرضت في نهاية تشرين الأوّل الماضي (لا تتعدّى مدتها الـ 19 دقيقة)، أثارت حفيظة الأمير الشاب والدائرة المقرّبة منه على خلفية احتوائها على انتقادات لاذعة للسعودية. انطلاقاً من جريمة قتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده في إسطنبول، يوجّه مقدّم البرنامج، الكوميديان الأميركي من أصول هندية حسن منهاج (33 عاماً)، سهامه تجاه المملكة: «قبل أشهر معدودة فقط، احتفي بـ MBS كمصلح يحتاجه العالم العربي، قبل أن يكسر مقتل خاشقجي هذه الصورة». وتابع: «من المذهل أن الناس انتظروا جريمة تودي بحياة صحافي في «واشنطن بوست» لإدراك أنّ محمد بن سلمان ليس إصلاحياً...». بعدها، انتقل المراسل السابق لبرنامج The Daily Show للحديث عن الحرب التي تقودها السعودية على اليمن، ثم التشكيك والسخرية من مزاعم الأمير المدلّل أميركياً حول رفع سقف الحرية والانفتاح، ومهاجمة طبيعة العلاقة التي تجمع بين البيت الأبيض والديوان الملكي السعودي. لم ينحصر هذا الكلام في إطار الـ «ستاند آب كوميدي»، بل جاء كما باقي الحلقات مدعّماً بصور وفيديوات ورسوم بيانية و«إنفوغرافيكس»، ضمن سياق مترابط أشبه بمادّة صحافية محبوكة.موقع «هوليوود ريبورتر» كان من وسائل الإعلام الأولى التي أوردت الخبر، قبل أن تنقل صحيفة «فاينانشال تايمز» عن «نتفليكس» قولها إنّ القرار اتخذ بعد تلقيها شكاوى من مسؤولين سعوديين، وتأكيد «هيئة الاتصالات وتقنية المعلومات» السعودية أنّ المضمون يشكّل «خرقاً لنظام مكافحة جرائم المعلوماتية». في سياق الاعتراض، ورد أنّ المادة 6 من القانون المذكور تجرّم «إنتاج أو إعداد أو نقل أو تخزين المواد التي تؤثّر على النظام العام، والقيم الدينية، والأخلاق العامة، والخصوصية من خلال شبكة المعلومات أو أجهزة الكمبيوتر». أما العقوبة، فهي السجن لمدّة قد تصل إلى خمس سنوات، مع غرامة مالية لا تتجاوز ثلاثة ملايين ريال سعودي (حوالي 800 ألف دولار أميركي).



سرعان ما أيقظت هذه الحادثة مخاوف متعلّقة بحريّة التعبير، وتساؤلات جديدة حول مدى اتساع سطوة محمد بن سلمان وحدود رقابته إلى خارج بلاده، لاسيّما أنّه بات جلياً أنّ الأمر لم يعد محصوراً بالميديا ومواقع التواصل الاجتماعي المحلية. علماً بأنّ شركة Statista التي تتخذ من هامبورغ مقرّاً لها، تقدّر عائدات «نتفليكس» في السعودية بـ 6.6 مليون دولار في 2019، وترجّح أنّها ستقفز إلى 9.8 مليون العام المقبل. في المقابل، حاولت الشبكة الأميركية (أبصرت النور عام 1997) شرح الأسباب التي دفعتها إلى ذلك، موضحة: «ندعم بقوة حرية الإبداع الفني في العالم… ألغينا الحلقة في السعودية بعد تلقينا طلباً قانونياً سليماً… المسألة أتت امتثالاً للقانون السعودي».
إلا أنّ تصريحات «نتفليكس» لم تنه الجدل. إذ أدانت سارة ليا ويتسن، المديرة التنفيذية لمنظمة «هيومن رايتس ووتش»، الواقعة معتبرة أنّ «إدعاء «نتفليكس» بدعم الحرية الفنية لا يعني شيئاً إذا كان ينحاز لمطالب مسؤولين حكوميين لا يؤمنون بأي شكل من أشكال الحرية لمواطنيهم، لا فنياً ولا سياسياً ولا كوميدياً».
اعتبرت المملكة أنّ الحلقة تشكّل خرقاً لنظام مكافحة جرائم المعلوماتية

أما المحرّرة في صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية، كارين عطية، فرأت أنّ ما جرى «مثير للغضب».
يبدو أنّ Patriot Act with Hasan Minhaj الذي يستوحي اسمه من قانون Patriot Act لمكافحة الإرهاب (أُقرّ بعيد أحداث 11 أيلول 2001)، هو أوّل البرامج التي تخلق مشكلة لـ «نتفليكس» في السعودية، لكن لا شيء يؤكّد أنّه سيكون الأخير، خصوصاً أنّ البلد الذي يحتل المرتبة 169 من أصل 180 في مؤشّر حرية الصحافة الصادر عن منظمة «مراسلون بلا حدود»، سبق مثلاً أن فرض على «فاينانشال تايمز» سحب أحد مراسليها وإغلاق مكتبها في الرياض بسبب نشرها «أكاذيب عن السعودية». حتى إنّ المملكة كانت تدرس الخيار القضائي، إن لم تصدر الصحيفة «اعتذاراً وتتعهد بتغطية محايدة وموضوعية»، وفق ما ذكر موقع «سي. أن. أن».


من جهته، علّق منهاج على ما جرى عبر حسابه الرسمي على «تويتر»، معتبراً أنّه من الواضح أنّ «أفضل طريقة لمنع الناس من مشاهدة شيء ما هي منعه وتحويله إلى ترند، وتركه متوافراً على يوتيوب». وأضاف: «دعونا لا ننسى أنّ أكبر كارثة إنسانية تجري الآن في اليمن»، قبل أن يختم منشوره برابط للتبرّع عبر الموقع الرسمي لـ «لجنة الإنقاذ الدولية» (IRC).