لاعتبارات عدّة أبرزها مالية، ها هي قنوات لبنانية تسلك بخَفَر طريق التلفزة عبر الإنترنت (راجع مقال الزميلة زكية الديراني). صحيح أنّ الخطوة أتت متأخّرة أكثر من عقد، إلا أنّه يبدو أنّ القائمين على الشاشات المحلية (mtv وlbci بشكل أساسي) لا يرون فيها إلا سبيلاً لتأمين مداخيل إضافية في ظلّ الشحّ الإعلاني وتقلّص الأموال السياسية المستثمَرة في وسائل الإعلام، مع تراجع نسب المشاهدة في أوساط الفئات العمرية الشابة المولعة بالمشاهدة عبر تقنية التدفق الإلكتروني، أو الـ «ستريمينغ». المرحلة الأولى تمثّلت في فرض mtv اشتراكات شهرية مدفوعة على المشاهدين في الخارج وإجبار المقيمين في الداخل على تسجيل الدخول (registration)، مع إرغام lbci زائري موقعها الإلكتروني على دفع مبالغ مالية لمشاهدة محتواها (برامج ومسلسلات وبثّ مباشر باستثناء نشرات الأخبار ــ 4.99 دولار أميركياً شهرياً و54.99 دولار سنوياً)، بالإضافة إلى الاطلاع على بعض المحتوى الخاص المُنتقى من أرشيفها (كمقابلة الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصرالله مع جبران تويني عام 1995)، على أن تنتقل لاحقاً إلى مرحلة أخرى تتمثّل بـ «إنتاج برامج خاصة بالجمهور الرقمي».
(بن مونسي ــ بريطانيا ـــ مجلة الـ «تايم»)

وفي انتظار اتّضاح الصورة أكثر لدى «الجديد»، فرضت الأخيرة اشتراكاً شهرياً على المقيمين خارج الأراضي اللبنانية (البث المباشر والفيديوات ــ 4.99$ شهرياً مثلاً). يأتي ذلك بعدما لجأت هذه التلفزيونات وغيرها في السنوات الماضية إلى البثّ الحي عبر الإنترنت، وتوفير محتواها للمشاهدة عبر مواقعها الإلكترونية أو قنواتها الرسمية على يوتيوب، إلى جانب محاولات الإفادة (ولو بالحدّ الأدنى) من «إعصار» العصر الرقمي (ترويج للبرامج، بثّ مباشر عبر فايسبوك، استطلاع آراء الناس...) خصوصاً مواقع التواصل. من دون أن ننسى فشل سعي أصحاب القنوات في 2015 لإنشاء حزمة مشتركة تضمن حقوقهم المادية والفكرية والأدبية بفعل تعنّت أصحاب الكابلات. فهل ستنجح المساعي الجديدة في التخفيف من الأزمة المالية التي بدأت في 2011؟ وهل سيتمكّن هؤلاء من تعميم مبدأ التلفزة عبر الإنترنت والمشاهدة حسب الطلب (Video on Demand) في بلد تعصف بمواطنيه أشكال المعاناة كافة، على رأسها الاقتصادية والمعيشية؟ وماذا عن حالة الإنترنت والبنى التحتية المتردّيّة؟ وهل ستعمد الشاشات فعلاً إلى إنتاج محتوى خاص بمنصّاتها الرقمية يتمتّع بالفرادة والجاذبية الكافية لتشجيع المشاهد على تكبّد أعباء مالية، في ظلّ المنافسة الشرسة الآتية من الخارج؟
هذه الأسئلة البديهية وغيرها تفرض نفسها أمام هذا الواقع المستجدّ، لا سيّما أنّ التلفزيونات التقليدية في الغرب ليست في أفضل أحوالها هذه الأيّام، رغم قطعها أشواطاً وانخراطها في هذه الموجة منذ منتصف الألفية الجديدة. لكن من الواضح أنّه بات مطلوباً منها بذل جهود إضافية للحفاظ على ولاء المشاهدين، خصوصاً الشباب. في نهاية تشرين الأوّل (أكتوبر) الماضي مثلاً، أعلنت «هيئة تنظيم شؤون البث الإذاعي والتلفزيوني» في بريطانيا (ofcom) أنّها توصّلت إلى خلاصة مفادها أنّ «هيئة الإذاعة البريطانية» تواجه أزمة وجودية نتيجة فشلها في الوصول إلى الفئات العمرية الشابة في ظلّ المنافسة التي تواجهها من قبل المنافسين التجاريين وخدمات البث عبر الإنترنت كـ «يوتيوب» و«نتفليكس». وشدّدت الهيئة على أنّ bbc لم تكن تفعل ما يلزم بالسرعة المطلوبة لتدارك الوضع. وكانت «أوفكوم» قد أصدرت قبل ذلك تقريراً صادماً أكدت فيه أنّ عدد مشاهدي البرامج والمسلسلات عبر «نتفليكس» و«أمازون برايم» وغيرهما من منصات الـ «ستريمينغ» صار يفوق أولئك الذين يلجأون إلى الطرق العادية (كالأقمار الصناعية والكابل) في البلاد. علماً بأنّ نموذج التمويل الحالي للمؤسسة العريقة يعتمد على إقناع غالبية الجمهور بدفع مبلغ 150.50 جنيهاً إسترلينياً سنوياً للحصول على ترخيص تلفزيوني. لم تنكر ofcom التغيّر «الجذري» الحاصل في عادات المشاهدة، إلا أنّها رجّحت أنّ اهتمام «بي. بي. سي» يتركّز على الفئات العمرية الأكبر أكثر من اللازم، موضحة أنّ «الشباب يريدون منها المزيد من المخاطرة، ويشعرون بأنّها تعتمد على الأشكال الإعلامية التقليدية… عليها مخاطبتهم بلغتهم».
الحال في الولايات المتحدة ليس مختلفاً. في نهاية نيسان (أبريل) 2018، سجّل ثلاثة مزوّدي خدمة التلفزة المدفوعة (Comcast وAT&T وCharter Communications) في البلاد تراجعاً دراماتيكياً في أعداد الاشتراكات في باقات الكابل والستالايت التابعة لها، متجاوزة توقّعات وول ستريت. تزامن ذلك مع تقارير اقتصادية تُظهر نموّاً كبيراً في خدمات الـ streaming. وبحسب مجلة Fortune الأميركية، لا تعدو هذه النتائج كونها تأكيداً على توجّه آخذ بالتعاظم لابتعاد الناس عن أساليب المشاهدة التقليدية. فقد تراجعت أعداد مشتركي الكابل في البلاد بنسبة 3.4 في المئة عام 2017، بوتيرة أسرع مما كانت عليه في 2015 و2016، في الوقت الذي رجّحت فيه وول ستريت أن تسجّل السنوات القليلة المقبلة نسباً أكبر. من جهتها، توّقعت شركة eMarketer المتخصصة بتحليل ودراسة السوق أنّه بنهاية 2018، سيقطع 33 مليون أميركي علاقتهم بالكابل والستالايت وغيرهما من أشكال الـ Pay TV، أي بزيادة 32.8 في المئة عن العام الماضي (24.5 مليون).
أما عن الأسباب الرئيسية الكامنة وراء هذا الوضع، فتتحدّث التقارير الإعلامية عن «الجاذبية» الشديدة لفكرة الـ unbundling أو عدم الالتزام بحزمة معيّنة، كونها تمنح المرء فرصة الدفع للحصول على المحتوى الذي يريده تحديداً، ناهيك عن التحكّم بوقت ومكان المشاهدة بعيداً عن الالتزام ببرمجة ومواعيد البثّ، والعلاقة المباشرة بين المشاهدة والمنصة التي تزوّده بالمحتوى (برامج، مسلسلات، وثائقيات، أفلام...)، بالإضافة إلى «فشل» غالبية مزوّدي الكابل في اكتساب ثقة الناس بفعل «سياسة التسعير الغامضة والخدمة السيئة».
تعيش bbc «أزمة وجودية» بسبب تفضيل الشباب منصّات البثّ عبر الشبكة العنكبوتية


صحيفة «أوبزرفر» البريطانية، تساءلت كيف يمكن للتلفزيون التقليدي مجاراة «جموح» شبكات الـ «ستريمينغ» (خصوصاً Netflix ــ 137 مليون مستخدم حول العالم وميزانية إنتاج محتوى سنوية تبلغ 13 مليار دولار أميركي في 2018)، وتجنّب الموت؟
برأي الرئيس التنفيذي لمنظمة Patriarch ورئيس مجلس إدارة Reputation Management Consultants، إريك شيفير، يتعيّن على شبكات الكابل أن «تعرف مشاهديها جيّداً وأن يكون لديها الذوق والموهبة الكافيان لرفع مستويات المتعة والسعادة لدى المشاهدين، وإلا فإنّها ستواجه تحطمّاً حتمياً لعلاقتها بالجمهور». ويضيف شيفير أنّ استراتيجية «نتفليكس» وغيرها تضع القائمين على الشاشات في حالة «رعب وقلق من وأد مؤسّساتهم بفعل طوفان المحتوى الرقمي ذي الجودة العالية». ويتطرّق شيفير أيضاً إلى التبدّل الواضح في سياسة المعلنين، متكئاً إلى أرقام نشرتها eMarketer في وقت سابق من العام الحالي، تظهر أنّ الإنفاق على الإعلانات المتلفزة تراجع للمرّة الأولى في 2017، على أنّ يسجّل تقلّصاً بنسبة 0.5 في المئة في نهاية العام الحالي، ليسجّل 69.87 دولار أميركي. غير أنّ الشركة لفتت إلى أنّ عام 2020 وحده سيكون استثناءً بفعل السباق الرئاسي الأميركي والألعاب الأولمبية الصيفية، قبل أن تدور عجلة التراجع مجدداً! تطوّرات متسارعة تطرأ على مختلف مجالات الترفيه والفن وسوق الإعلام والإعلان بسبب الفورة الرقمية وأساليب الـ «ستريمينغ» المنوّعة. أمر يحتّم التساؤل حول جدوى ما تفعله المحطات اللبنانية في عالم مفتوح كالذي نعيش فيه اليوم، وفي ظلّ «عجزها» حتى الآن عن خلق محتوى مبتكر وجذّاب يمكّنها من إنعاش نسب المشاهدة الخجولة والمتفاوتة على الشاشة الصغيرة.