لم تعرف حرية الصحافة طريقاً معبّدة إلى إحدى بوابات دمشق السبع، رغم التوصيات الرئاسية المتكررة للحكومة بالتعامل المرن في مواجهة الصحافيين، والتعاطي المنفتح حتى مع انتقاداتهم واتهاماتهم كونهم ينقلون نبض الشارع. إلا أن بعض الجهات العامة لا توفّر فرصة للانقضاض على أي صحافي مستضعف، أو وسيلة إعلامية لا تملك أكثر من صوتها الحر، بينما توارب السلوكيات الحكومية في سوريا لإيهام الرأي العام بأنها تجرّب ضمان إعلام محترف. أما «اتحاد الصحافيين»، فقد اتخذ أسلم الحلول وقرر أن يغطّ في سبات عميق، من دون أن يجرب معرفة ماذا يحلّ بأعضائه الذين ربما لا يسمعون باسمه إلا في الاحتفالات العامة أو الفعاليات الشكلية. وسط هذا كلّه، ما زال هناك من يؤمن بدور «صاحبة الجلالة» كعين راصدة لكلّ ما يجري، وقادرة على أرشفة المعطيات، وسبر كواليس المجتمع، وتخزين صور بانورامية عنّ كل ما يحدث. فعلياً، أسهمت صحافة الإنترنت في الوقوف بصلابة في وجه قرارات لو أتيح لها أن تنفّذ لتركت آثاراً بالغة أهمها «القانون رقم 16» الخاص بوزارة الأوقاف. فلو أُقر على وضعه من دون تعديلات جذرية، كان هذا القانون ليمهّد الأرض أمام السلفية والأصولية وهيئات تأمر بالمعروف بقوة وتنهى عن المنكر! هكذا، انطلقت في الفترة الماضية منابر سورية مستقلة، أرادت أن تقول كلمة «السلطة الرابعة» وتشهد على زمن أفول الحرب والسير على سكّة التعافي.
بوليغان ـ المكسيك

من تلك المنابر «صاحبة الجلالة» التي يرأس تحريرها الصحافي السوري المخضرم عبد الفتّاح العوض، وجريدة «الأيام» التي تملك ترخيصها «شركة الأسرار المحدودة» ويديرها الصحافي السوري علي حسّون. هذه الصحيفة الأسبوعية التي انطلقت من حي المالكي في دمشق، حاولت استقطاب مجموعة من الكتّاب المحترفين، مع ترك الفرصة أمام الأقلام الشابة للتجريب، وواكبت الحياة الاجتماعية السورية، وأنجزت تحقيقات متماسكة. ورغم عدم انتشارها بالشكل الكافي، وشغلها بمنطق ينقصه المزيد من المواكبة لمفردات الحداثة الإعلامية، إلا أنها احتلت مكانة محلية مكرّسة في مدة قياسية. أمر قض مضاجع بعض المسؤولين الحكوميين، وقائمة طويلة من أصحاب المصالح. وربما يكون هذا السبب الرئيس وراء إغلاق مكتب الجريدة بالشمع الأحمر أخيراً، بحجة أن الإيجار سكني وليس فكرياً، خصوصاً أنّ هذه الخطوة جاءت بعد سلسلة مقالات تلاحق رجال أعمال سوريين ووضع استثماراتهم في دمشق. وأوردت الجريدة تفاصيل ما جرى موضحة بأنها «سابقة خطيرة، تقدّم بلا شك صورة مخزية عن مدى الاستهتار بالصحافة والتطاول عليها من قبل جهات تعتقد بأن هذا البلد ما هو إلا مزرعة لها». أما عن تفاصيل ما حصل، فقد أوضحت الجريدة السورية بأنه «حضرت يوم الخميس الماضي مهندسة من البلدية طالبة تعديل عقد إيجار المكتب من سكني إلى فكري. امتثل أصحاب ترخيص الجريدة واعدين بتصحيح العقد في أسرع وقت». لكن مع نهاية الدوام الرسمي لآخر يوم دوام في الأسبوع الماضي، أتى شرطي برفقة موظف في محافظة دمشق، وبحوزتهما كتاب موجّه من المحافظة إلى مركز شرطة المحافظة يطلب إغلاق مقر صحيفة «الأيام»، وختمه بالشمع الأحمر «بشكلٍ فوري»، كما جاء في كتاب المحافظة الممهور بختمها والمذيل بتوقيع الجهة صاحبة الأمر. «لكن تفّهم الشرطي والموظف خففا من وطأة الأمر لحين تدخّل رئيس الحكومة شخصياً لوقف تنفيذ القرار» بحسب الجريدة. لاحقاً، فنّدت الأخيرة مجموعة كبيرة من المخالفات القائمة في دمشق من دون تدخّل الجهات المعنية، واعتبرت بأن الهدف من محاولة إغلاق المكتب من دون سابق إنذار ليس سوى طريقة لإخراس «صوت حق بشكل متقصّ».
محاولة إغلاق جريدة «الأيام» بعد مقالات وتحقيقات عن رجال أعمال سوريين


وفي تصريح لـ «الأخبار» يقول رئيس تحرير جريدة «الأيّام» علي حسون بأن «المسألة لا تتعلق بمخالفة بسيطة لأن معظم وسائل الإعلام السورية الخاصة ليس لديها مثل هذا الترخيص، بل هي محاولات مستمرة ومتراكمة لقمع صوت مختلف وغير مرغوب فيه، ما يعني أن جريدتنا مستهدفة لما هي عليه، من بحث عميق بمكان لم يعتد عليه العقل الرقابي، وطرح مواضيع لم يتم تداولها في وسائل الإعلام المحلية، وتحاول أن تقدم صورة لما يجب أن يكون عليه الإعلام في بلد عانى ما عاناه، وهو مقبل على مرحلة جديدة لا ينفع معها استمرار هذا الإعلام بالشكل الذي هو عليه، فنحن لا نؤمن بخطوط حمر كتلك التي زرعها الصحافيون السوريون لسنوات وعقود في رؤوسهم واعتنقوها خوفاً أو كسلاً، أو تلك التي يحددها القائمون على الإعلام من «الموظفين» الحريصين على استمرار الصحافة السورية على وضعها الحالي بحجة ظروف البلد التي يمكن أن تتحول إلى ذريعة لقمع كل صوت من خارج «الجوقة» وتمنع أي عمل صحافي حقيقي». ويضيف حسون: «نحن نعتقد بأنه لا خط أحمر سوى ما يتعلق بسيادة سورية ووحدة أراضيها وشعبها واحترام رموزها (جيشها ورئيسها). ما عدا ذلك كل شيء قابل للجدال والبحث والتحقيق. وهو ما سنستمر به أياً كانت التحديات ونعرف أنها كبيرة، ولكن الأساس الذي ننطلق منه، إما أن نقدم صحافة تشكّل فرقاً، أو فليقولوا لنا بوضوح: كفى لأن هذا النوع من الصحافة ممنوع منعاً باتاً ولا أظن بأننا وصلنا إلى هذا الحد».