في الثاني من تشرين الأول (أكتوبر) الحالي، اختفى الصحافي السعودي جمال خاشقجي داخل القنصلية السعودية في إسطنبول. في السابع من تشرين الأول، وعلى إثر ضغط إعلامي عارم قادته كبريات وسائل الإعلام الغربية، دخل فريق «رويترز» إلى حرم القنصلية، بمواكبة القنصل السعودي في إسطنبول محمد العتيبي. جالت الكاميرات داخل المكاتب، وفي المراحيض، حتى إنّ القنصل السعودي فتح لها الأدراج الصغيرة والدرف، ليؤكد أن خاشقجي غير موجود في القنصلية. كان ذلك الظهور الأول والأخير للعتيبي وقتها على الإعلام ليعود بعدها ويختفي عن الأنظار، ويعفى من مهماته لاحقاً ويعود إلى الرياض.
آدم زيغليس ـ الولايات المتحدة

سُمح وقتها للوكالة العالمية دون سواها، بالدخول من أجل محاولة دحض تورّط المملكة في مقتل الصحافي السعودي. بالطبع، فشلت السعودية (والوكالة) في هذه المهمة، وواصلت المملكة إنكار مسؤوليتها في حادثة الاغتيال، ثم انخرطت إعلامياً وسياسياً وديبلوماسياً، مستخدمةً أوراقاً مختلفة تبعد عنها شبهة التورط في هذا الملفّ (عائلة خاشقجي، تشويه صورة خطيبته خديجة جنكيز، وممارسة ذكورية عارمة عليها...). في المقابل، وقفت الآلة الدعائية الكبرى التي قادتها قطر، وتحديداً «الجزيرة»، التي استعادت «أمجادها» في هذه القضية، واستطاعت استقطاب جمهور واسع، لما أرسته من ثقل وجهود غير اعتيادية في مواكبة ما حصل مع خاشقجي منذ اليوم الأول لاختفائه، وجنّدت أطقمها في واشنطن، وإسطنبول والدوحة، في سبيل الضغط أكثر للسير بخلاف الرواية السعودية المسوَّقة. وبين الضفتين، القطرية/ التركية من جهة، والسعودية من جهة أخرى، وتأرجح الإعلام الغربي بينهما، أقرّت السعودية نهار الجمعة الماضي بمقتل خاشقجي. نشرت رواية لا يصدقها عقل، بأن ما حدث معه كان نتيجة «شجار» نشب بينه وبين «أشخاص قابلوه» في القنصلية، ما أدى إلى وفاته! مع روايتها الجديدة التي تكذّب في الأصل ما ادعته في بداية الحادثة بأن خاشقجي غادر القنصلية «بأمان وسلام» ويجري البحث عنه «كمواطن سعودي»، بدأت المملكة حفلة تسويق ثانية، تمثلت بحشد القوى السياسية العربية التي تقع تحت جناحيها، وتحريك هذه الجبهة، بغية تبيان أنّ المملكة لا دخل لها بمقتل الأخير، وأن القيادة السعودية تقوم اليوم بـ «ترسيخ العدل» عبر قرارات الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز الأخيرة بعزل بعض الشخصيات السعودية من مناصبها، وملاحقتها 18 شخصاًَ قالت إنّهم متورطون في تصفية خاشقجي.
دأبت الوكالة على أن تكون السند وبوق المملكة في هذه القضية


إزاء هذه المشهدية الدعائية الجديدة، التي تحاول المملكة التسويق لها، عبر أذرعها الإعلامية المختلفة، نشرت «رويترز» ــ من جديد ودون سواها ـــ رواية تطابق ما تسعى إليه المملكة، من دفع التهمة عن قياداتها، وحصر القضية في مجموعة عناصر (غير منضبطين) قاموا بعصيان الأوامر! وسط حالة التشكيك التي سادت بعد إعلان السعودية «وفاة» خاشقجي، لا «مقتله»، نتيجة «شجار»، ساندت الوكالة العالمية هذه الرواية. إذ نقلت عن لسان «مسؤول سعودي رفض الكشف عن هويته»، تفاصيل ما حدث في ذاك الوقت داخل القنصلية، من عملية إجرامية قادها 15 شخصاً، كانوا ينوون «تخدير خاشقجي وخطفه». وبعد «مقاومته» لهم، قاموا بـ «قتله». وعن التفصيل الأبرز المتعلق بجثته، قال هذا المسؤول إن الجثة لم تقطَّع كما رُوِّج في الإعلام التركي، بل لُفّت في «سجادة» وسُلِّمّت لما سمّته «متعاوناً محلياً». كذلك، ضمن سؤالها عن التضارب في الروايات الخارجة عن المملكة بشأن هذه الحادثة، قدمت الوكالة العالمية خدمةً إلى السعودية. إذ بررت هذا التضارب بأنه مجرد «استناد إلى معلومات خاطئة»! «النسخة الأحدث للرواية السعودية» كما ارتأت «رويترز» وصفها، كانت بالفعل، خدمة للسعودية ولحكّامها، عبر التسويق لهذه الرواية من منبر عالمي، دأب على ما يبدو في هذه القضية على أن يكون السند والبوق المردّد والمسوّق للمملكة في هذه القضية. ولا يمكننا هنا نسيان ما حصلت عليه أيضاً من «سكوب» في بداية العام الماضي، بعيد إقدام ولي العهد السعودي محمد بن سلمان على اعتقال مجموعة أمراء سعوديين في فندق «ريتز كارلتون» في الرياض. إذ أخذت «رويترز» الحق الحصري في الدخول والتصوير. وقتها، خرج المليادير السعودي الوليد بن طلال، ليجول مع الكاميرا، في المطبخ والغرف الفخمة، لإيصال رسالة إلى العالم بأن المحتجزين يعيشون حياة رغيدة ولا يتعرضون لضغوط من أي نوع كانت!