وعندما خاطر تادي بمقارنة «روسيا اليوم» مع قناة «فرنسا 24» و«تلفزيون فرنسا»، ثارت الصحافية لتذكّره أن ««فرنسا 24» لا تمول مباشرة من الدولة، بل من ضريبة جاءت في قانون المالية، الذي صوت عليه البرلمان والإرادة المواطنية»، ما يقيم فرقاً جوهرياً بينها وبين «روسيا اليوم»، لأن ««فرنسا 24» تبث في العالم أجمع جلسات الاستماع لـ(ألكسندر) بنعلا (المكلف السابق بأمن الرئيس إيمانويل ماكرون)، في مجلس الشيوخ، ما يمثل حصى كبيرة في حذاء ماكرون، وهو أمر لا تفعله «روسيا اليوم» مع الرئيس بوتين».
أما تادي، الذي رفض دائماً تقاسم افتراضات الخطاب الإعلامي المهيمن، وقاوم كثيراً الانخراط في الفكر الأحادي، فقد خرج عن تحفّظه المعتاد، لتعرية التعارض الفظ بين الديموقراطية والسلطوية، وهي الترنيمة المفضلة لدى الصحافيين الفرنسيين. استحضر الرجل التاريخ، ليثبت للصحافية أن التصور الديموقراطي ليس خطياً، بل تطوري، ورد عليها متهكّماً: «لقد عشنا مطولاً تحت الأبارتايد، ولم يكن للمرأة الحق في التصويت، وأطلقنا على ذلك صفة الديموقراطية. عرفت أميركا الفصل العرقي حتى نهاية الستينيات، لكن ذلك لم يمنع من اعتبارها ديموقراطية كبرى». وتابع: «كان مكتب البث الإذاعي والتلفزي، على ذمة الجنرال ديغول، وعندما كان يتم استدعاؤه، لم يتم التحدث معه قط عن «أفريقيا-فرنسا»، والشرطة الموازية، وغياب حرية التعبير لدى المعارضة، ووفق ما تقولينه عن الديموقراطية، فإنه لو عاد الجنرال ديغول اليوم، سيكون عليكِ أن تقولي له إن تلك كانت ديموقراطية سلطوية، وأن تعتبريه مثل بوتين جزئياً».
تحمل حالة سونيا دوفيلار، أعراض صحافة مجردة من أي حسّ نقدي، يقودها في ذلك، البحث عن الراحة والأمان الوظيفي. صحافة تعيد إنتاج مبادئ الخطاب الأيديولوجي المهيمن، وتوظف مقولات أقرب إلى الشعارات السياسية من التحليل السوسيو-تاريخي. وضع تعارض بين الديموقراطية الفرنسيّة والسلطوية الروسية أمر فظ، إذ لا يتوقف عدد من المثقفين في فرنسا، خلال الأعوام الأخيرة، عن الإدانة بشكل علني، الملامح السلطوية في بلد يقع فيه دائماً استغلال الصراع ضد الإرهاب، لمضاعفة الإجراءات القمعية الاستثنائية، وتضمينها في القانون العام. ويتضمّن قانون 30 تشرين الأول (أكتوبر) 2017 لمكافحة الإرهاب، وتشديد الأمن الداخلي، عدداً من الإجراءات المهمة ضمن حالة الطوارئ، ويدعم جهاز مكافحة الإرهاب، ويمثل ذلك، أحدث شاهد على انتقال الردع من السلطة القضائية إلى السلطة السياسية.
بمجرد الخروج عن سردية النموذج الوطني المؤسطر، يميل التاريخ إلى تأكيد الطبيعة الإجرامية للأنظمة الديمقراطية، من استعمار الجزائر، إلى القوانين الاستثنائية المطبقة على الشعوب المستعمَرة في المركز الاستعماري، ومن التعاون في ظل نظام فيشي، إلى التشريعات المضادة للإرهاب والهجرة، لكن الحقائق التاريخية تشهد أن الأنظمة الديموقراطية ليست أكثر من أنظمة ديموقراطية إمبريالية، لا تخترق الوعي المهني للصحافيين، ولا تؤثر في أخلاقهم الجمهورية الطهورية.
صحافة تعيد إنتاج مبادئ الخطاب الأيديولوجي المهيمن
واضعةً غمامتها التنظيمية، تطرح سونيا دوفيلار بفظاظة سؤال الأخلاق: «ألا يقلقك بثّ برنامج «يُمنع المنع» على تفلزة روسية، في حين أن روسيا هي أحد أكثر الأنظمة القامعة للحريات في ما يتعلق بالإعلام ونقاش الأفكار؟ ألا يضايقك ذلك أخلاقيّاً؟». لكن المقدم المتسلح بالصبر، أجابها بأن التعاون مع تلفزة روسية عمومية، لا يعني الخضوع أو الانخراط في الخط السياسي الرسمي، وسخر ببراعة من الرابط المعقود بين الصحافة الغربية والتناول الموضوعي للمعلومة. كما شدد على ضعف مستوى الصحافيين وقناعاتهم المشتركة. ورد بحمية «أحسدك على قناعتك بأننا نحن الصحافيين الغربيين نمارس صحافة نزيهة، من دون أي أحكام مسبقة، أو انحياز، أننا أبطال الديموقراطية، نحن نصنع المعلومة، فيما يصنع جميع ما تبقى الدعاية. الآخرون أعوان الطغيان».
ما يشغل المقدّم السابق لبرنامج «الليلة أو أبداً»، هو اختفاء النقاش الجدلي من الإعلام الفرنسي، ليترك مكانه للتمثلات المحددة سلفاً، والتفسيرات الأحادية. «السؤال الذي يجب عليك طرحه عليّ هو كيف صار تادي مجبراً على القيام بما فعله بحرية كاملة على مدى عشرة أعوام، وبكثير من النجاح في تلفزيون فرنسا، عبر برنامج «الليلة أو أبداً»، في تلفزة روسية؟ المشكلة هي غياب النقاشات الحقيقية عن التلفزيون الفرنسي، وأنّ ذلك لا يقلق أي صحافي فرنسي».