25 دقيقة، هي مدّة الفيلم الاستقصائي «حرب الشاشات» (أشرف محمد شريف على إعداد النسخة العربية) الذي عرضته «بي. بي. سي عربي» أخيراً. قد لا تكون هذه الفترة كافية ووافية، لتفنيد ما حصل في الأزمة الخليجية بين السعودية وقطر، بعد مضي عام كامل. يبحث الشريط في الأزمة وترسانتها الإعلامية على وجه الخصوص، ولا سيّما بين طرفي النزاع: «العربية»، و«الجزيرة». فبات السؤال مشروعاً لدى الرأي العام: «مَنْ نصدق؟»، وذلك وسط كمّ هائل من الأخبار الكاذبة والتضليل، والحرب الضروس المشتعلة على الجبهتين. الوقت القصير نسبياً للإحاطة والتوغل بأدوات كلا الفريقين، إلكترونياً أو على الشاشة الصغيرة، لا يمكن أن يُشبع المهتم بما حدث. قد يكون همّ الشبكة البريطانية هنا، الإضاءة على إشكالية الأخبار الكاذبة والمعلومات المغلوطة والمضلّلة، وتأثيرها في الرأي العام، أكثر من عرض مثلاً (ولو بإيجاز) خلاصة آلاف الساعات التي رُصِدَت من التغطية التلفزيونية لـ «العربية» و«الجزيرة»، اللتين استخدمتا خطاب استقطاب حاد لتعبئة جمهورَيهما.من قطر إلى واشنطن ثم لندن، يتقصّى الفيلم مسار الحرب الإعلامية التي رافقت الأزمة التي بدأت (كما يُدّعى) بـ«قرصنة إلكترونية لقناة «قطر» الحكومية، وبثّ أخبار زائفة عن الأمير تميم بن حمد آل ثاني»، لتشتعل من بعدها الأمور وتقع القطيعة بين السعودية ودول خليجية أخرى من جهة والدوحة من جهة ثانية، وتضحي الأخيرة في حصار اقتصادي وديبلوماسي وسياسي قاسٍ. ويركّز الفيلم على الأسلحة المستخدمة، ويقف عند آراء كبار الخبراء في مجال الإعلام الإلكتروني والتقليدي، محاولاً كشف خباياها، وتلاعبها بالرأي العام.
لا شكّ في أنّ غياب أي تعاون سعودي، رسمياً كان أو إعلامياً، مع bbc، جعل الكفّة راجحة لمصلحة قطر، في تظهير أكبر لوجهة نظرها. هكذا، جرى استصراح مراسلها جمال الشيّال الذي أكّد أنّه «لم يتلقَّ أي قرار تحريري أو توجيه من الحكومة القطرية»، إزاء التعاطي مع الأزمة المندلعة. كذلك، جرت زيارة مقرّ «الجزيرة» الناطقة بالإنكليزية، ومديرها جايلز تريندل، الذي عزا بدوره سبب ما تفعله دول خليجية بقطر، إلى ما كان للشبكة القطرية من دور في «الربيع العربي»، الأمر الذي أخاف الحكام العرب والخليجيين من وصول الأحداث إلى بلادهم.
بدورها، لم تحضر «العربية» في الشريط، سوى عبر بيان صحافي مقتضب، بعد رفضها التحدّث إلى المؤسسة البريطانية العريقة. اتسم البيان بسذاجة واضحة، إذ أكدّ أنّ القناة السعودية «تعكس الحقيقة وتقدّم تقارير متوازنة»! خبيرة الإعلام والاتصال السياسي، دينا مطر، كانت لها مشاركة سريعة، ركّزت من خلالها على لقطة تلفزيونية متناقضة جمعت كلاً من «الجزيرة» و«العربية» بعد يوم واحد من اندلاع الأزمة. بدت الحقيقة ضائعة هنا، بين صور تبثها الشبكة السعودية، وتظهر توجّه الناس المذعورين إلى الأسواق التجارية في الدوحة خوفاً من الحصار، فيما الشبكة القطرية تستصرح الناس في الشارع وتظهر أجواءً مختلفة تتعلّق بالحركة العادية وأجواء الطمأنينة.
من الشاشة إلى مواقع التواصل الاجتماعي، وتحديداً «تويتر». إضاءة مهمّة هنا، على ما يسمى «البوتات» (برمجيات تراقب التفاعل والبحث والتصنيف وحتى سرقة البيانات)، والتلاعب بـ «تويتر»، وإيهام الرأي العام بأنّ تغريدات محدّدة تحصد شعبية، إن كانت مناهضة لقطر أو مناصرة لها. وبعد استصراح خبراء في هذا المجال، تبيّن أنّ الحسابات الآلية تستخدم على أنّها حقيقية، بينما هي مزّيفة في الواقع، ويقتصر عملها على إعادة ونشر مئات التغريدات (في ثوانٍ معدودة) لصناعة مشهدية داعمة للأنظمة. وجرى التطرّق أيضاً إلى كيفية التلاعب بالهاشتاغات، وإعادة نشرها، ما استفادت منه السعودية وقطر.
بعيداً عن العالم الإلكتروني وأروقة كبريات القنوات الخليجية، يكشف «حرب الشاشات»، من واشنطن ولندن تحديداً، ما سمّاه «المال الأسود»، أي التمويل المقدَّم من منظمات ونقابات هدفها التضليل والتأثير سلباً في الرأي العام. في هذا الشق، يحضر الصحافي السعودي جمال خاشقجي، وسلمان الأنصاري مؤسس ورئيس «مجلس العلاقات السعودية ــ الأميركية» الذي تجنّد لبثّ معلومات خاطئة عن النظام القطري، وتحديداً عبر موقعهthe Qatar Insider.
في المحصّلة، صحيح أنّ الفيلم لم يقدّم إحاطة وافية لتفاصيل الحرب الدائرة بين «العربية» و«الجزيرة»، إلّا أنّه أضاء بنحو بانورامي على أدوات كان يجهلها الجمهور، وتُلقي به في مستنقع التضليل والبروباغندا، عدا أنّه يظهر جهداً لافتاً في تقصّي هذا التلاعب، ولو صبّ في نهاية المطاف لمصلحة الدوحة.