القاهرة | لم يكن هناك حديث لمرتادي مواقع التواصل الاجتماعي في مصر خلال الأيام القليلة الماضية أكثر من حديث «التسريبات» الذي طغى حتى على التعليقات المعتادة على مباراة كرة القدم بين الأهلي والزمالك.
«التسريبات» ـ كما بات معلوماً ـ تمثلت في مجموعة من المحادثات الهاتفية بين عدد من الفنانات، يسرا، هالة صدقي وعفاف شعيب، والإعلاميين مفيد فوزي، عزمي مجاهد، وسعيد حساسين، وبين شخص اسمه أشرف الخولي «باشا» (اللقب الذي يمنحه المصريون لكل صاحب منصب من مديرهم في العمل إلى أصغر ضابط شرطة) قيل إنّه ضابط أمن دولة مسؤول عن توجيه الإعلاميين والفنانين، وإنه شبه مقيم في مدينة الإنتاج الإعلامي. التسريبات المزعومة أثارت ما أثارته بين مصدق ومكذب، وكانت محور العديد من البرامج التلفزيونية التي راحت تفنّد وتدحض ما جاء فيها. لكن الضجة لم تكد تهدأ حتى انطلقت مرة أخرى مع إعادة بث فيديو قديم، يعود لأكثر من عام، لإحدى حلقات برنامج «أبلة فاهيتا من الدوبلكس» (23:00 الجمعة والسبت على قناة cbc). حلقة استضافت فيها الدمية الشهيرة الإعلامية لميس الحديدي، ودار بينهما حوار «غامض» حول «أشرف باشا» الذي يراقب برنامجي كل من فاهيتا والحديدي، يقصّ ويحذف ويفرض صفارات محل بعض الكلمات والعبارات في برنامج فاهيتا المسجل، ويصرخ ويستدعي ويحقق مع القائمين على برنامج الحديدي الذي يبث حياً على الهواء.
الفقرة التي لا تزيد عن دقائق معدودة، وبدت غير مفهومة لكثيرين وقتها، باعتبارها «نكتة» داخلية بين الإعلاميتين والضابط المشرف عليهما، دب فيها المعنى، وتحولت إلى ضربة غير متوقعة لمن ينكرون صحة التسريبات ووجود «أشرف» من الأصل. لكن المؤكد أيضاً أنها قد تتسبب في مزيد من المشاكل لـ «فاهيتا» التي تلاحقها الاتهامات والبلاغات طوال الوقت، آخرها منع إعلان تلفزيوني من بطولتها.

أراجوزة الفضائيات

«الضحك في جوهره قالب داخلي، لا خارجي، للحقيقة: مستحيل تحويله إلى شيء جاد دون أن ندمّر ونحرف محتوى الحقيقة التي يحملها. الضحك لا يحررنا فقط من الرقيب الخارجي، لكن قبل هذا من الرقيب العملاق الداخلي. إنّه يحررنا من الخوف الذي تشكل داخل البشر عبر آلاف السنين: الخوف من المقدس، والمحرمات، والعيب، من الماضي، ومن السلطة». العبارة السابقة للمفكر والناقد الأدبي ميخائيل باختين من كتابه الشهير «رابليه وعالمه» عن أعمال الأديب الفرنسي فرانسوا رابليه الذي كتب في القرن السادس عشر عدداً من القصص الهزلية اعتبرها الباحثون أكمل وأجمل نموذج عن فنون الحكي الشعبية الكوميدية.

إذا كان باسم يوسف مهرج
بلاط السلطان، فـ«فاهيتا»
أكثر شبهاً بالأراجوز
ويرى باختين أن هذه الأعمال إنما تعبر قبل أي شيء آخر، عن مقاومة القهر المفروض على الطبقات الشعبية وتخريب خطاب السلطة الرسمي عن طريق السخرية واللغة العامية البذيئة والارتجال الخارج على النص والتركيز على الغرائز والجزء السفلي من الجسد. وهذه الأعمال غالباً ما تعتمد على أدوات مثل البلياتشو والبهلوان والعرائس والكاريكاتور والأشكال الغروتسكية – المبالغ في تشويهها. يعرف التراث المصري والعربي مثل هذه الفنون من قرون. وحتى وقت قريب، كانت عروض الأراجوز وخيال الظل، تجوب القرى والأحياء الشعبية، وبقيت من هذا التراث نصوص كثيرة تتفق مع ما قاله باختين عن المضمون الساخر والناقض للمؤسسات السلطوية كالحكام ورجال الدين وعساكر الشرطة والأغنياء المتحذلقين. امتد هذا التراث في الوسائط الفنية الأحدث من مسرح وسينما وأغنيات شعبية وبرامج تلفزيونية مما يضيق المجال لذكره هنا. لكن من أوضح هذه النماذج برنامج باسم يوسف الذي توقف و«فاهيتا» الذي يصارع من أجل البقاء. ظهرت شخصية «أبلة فاهيتا» للمرة الأولى بعد «ثورة 25 يناير» 2011 بحوالى عام، وسط موجة من البرامج السياسية الساخرة التي انتشرت على الانترنت والفضائيات، عندما حلت ضيفة متكررة في برنامج باسم يوسف. وقيل إنّها من بنات أفكار المخرج السينمائي عمرو سلامة. أما الدمية نفسها، فهي من ابتكار وأداء شاب اسمه حاتم الكاشف، درس المسرح، خاصة العرائس، في مصر وأميركا، وقلما يظهر إعلامياً بصورته، مفضلاً الاختفاء وراء السيدة «فاهيتا».
إذا كان يمكن مقارنة باسم يوسف بـ «الكلاون»، مهرج السيرك أو بلاط السلطان، فإن «فاهيتا» أكثر شبهاً بالأراجوز، تلك الدمية الصغيرة التي يختفي وراءها مضحك ساخر يجيد تقليد الأصوات، يخلط الجد بالهزل ويتجاوز خطوط العيب والمحرم والحرام وراء هيئته الغروتسكية وصوته اللابشري، مما يولد الضحك المصحوب بالخجل، والإعجاب المصحوب بالدهشة والإثارة الحسية المحدودة والمسموح بها في إطار جو اللامعقول الذي تتحدث فيه الدمى. وقد أثارت الدمية «فاهيتا» الضحك والخجل والجدل منذ أول ظهور لها بسبب جرأتها وطريقة أدائها «السوقية» المصحوبة بالغنج.
هذا الجدل الذي بدأ منذ أول ظهور لم يتوقف، بل ازداد حدة، ووصل في بعض الأحيان إلى توجيه اتهامات من العيار الثقيل لها.

جاسوسة، إرهابية، وفاجرة

بعد «ثورة 30 يونيو» والإطاحة بنظام الاخوان، تقدم ولد اسمه أحمد سبايدر دأب على مهاجمة الثورة ورموزها عبر اتهامات وقصص وتحليلات تنتمي إلى أسوأ أنواع نظريات المؤامرة وأكثرها سخفاً، ببلاغ للنائب العام هشام بركات يتهم فيه «أبلة فاهيتا» بالتجسس والدفاع عن الإرهاب، وأن ّإحدى أغنياتها «تحمل شفرات خطرة على الأمن العام»، وأن كلامها يحمل شفرات تدعو الرأي العام للتدخل لصالح الرئيس المخلوع محمد مرسي. الغريب أن النائب العام حوّل البلاغ للتحقيق الذي لم يسفر عن شيء، في الوقت الذي نجح فيه إرهاب الإخوان في اغتيال النائب العام!
اتهامات مماثلة لاحقت «فاهيتا» من قبل أشخاص معروفين بترويج هذا النوع من الاتهامات «المؤامراتية»، التي انتشرت على يد المدافعين عن «الدولة القديمة» وأجهزتها، منهم المذيعان أحمد موسى وأماني الخياط، اللذان شنا حملات مكثفة على «أبلة فاهيتا»، وشخص اسمه خالد رفعت يتولى إدارة مركز وهمي «للدراسات الاستراتيجية» اتهم البرنامج بأنه «مؤامرة يهودية وأن مبتكر الدمية سافر إلى إسرائيل». توالت هذه القصص تقريباً مع كل حلقة تظهر فيها أو عبارة تتفوه بها فاهيتا، كما حدث بسبب «تويتة» ضاحكة على حسابها الافتراضي عن قناة السويس الجديدة، فسرت على أنها دعوة لتفجير القناة، أو عندما ناقش البرلمان المصري الاتهامات الموجهة لها بالخيانة أيام مظاهرات «تيران وصنافير»، بالإضافة بالطبع إلى الاتهام بترويج الإباحية الذي يلاحق «فاهيتا» منذ أول إعلان للبرنامج ظهرت فيه الدمية بقميص نوم... وحتى إعلان الهاتف الخليوي الذي أدت بطولته ومُنع عرضه منذ أسابيع. البرنامج كما يعرض على التلفزيون يحفل بأصوات صفارات الرقابة على بعض الألفاظ والجمل، وتوجه «أبلة فاهيتا» جمهورها في كل حلقة للدخول على موقع البرنامج لمشاهدة الحلقة كاملة دون حذف... وسواء كانت هذه المحذوفات تتم بالفعل بأوامر من الرقابة أو يقوم بها القائمون على القناة أو البرنامج، فهي تسهم في المزيد من الإقبال على مشاهدة البرنامج على الانترنت.
النجاح والجدل المستمرّ اللذان حققتهما «أبلة فاهيتا» دفعا القائمين على البرنامج إلى رفع شعار يصفها بـ «الأرملة التي هزت عرش الإعلام في مصر»، على وزن عنوان فيلم «المرأة التي هزّت عرش مصر». شعار يخفي تحت سخريته حقيقة أخرى تتمثل في تراجع شعبية برامج «التوك شو»، وتقدم برنامج «أبلة فاهيتا» إلى الصدارة بشكل يكشف الخواء الذي بات يعانيه هذا الإعلام الذي هزته دمية على هيئة أرملة متصابية.

«أبلة فاهيتا»: 23:00 الجمعة والسبت على قناة cbc