القاهرة | كما لو أن التراجع المهني والاقتصادي الذي مر به الاعلام المصري في 2017 لا يكفي، حتى شهدت الأيام الأخيرة من العام المنصرم ضربات متتالية، تبشر بعام أكثر صعوبة على المهنة وحرية التعبير بشكل عام.
لم يتوقف المتابعون لما يجري على ساحة الإعلام، عن مناقشة الصفقة الغريبة التي تم بموجبها بيع حصة رجل الأعمال أحمد أبوهشيمة في شركة «اعلام المصريين» (تملك عدداً من الصحف ومحطات التلفزيون والاذاعة)، إلى شركة استثمارية ظهرت أخيراً على الساحة باسم «ايجل كابيتال». واضح من اسمها وأسماء ملاكها (وزيرة سابقة متزوجة من محافظ البنك المركزي السابق) أنها تابعة للسلطات المصرية، وهي غالباً واجهة لإحدى المؤسسات الأمنية. لم يكن المتابعون قد توقفوا بعد عن التعليق والتحليل والتعبير عن تشاؤمهم، حتى خرج خبر جديد عن قيام ما يسمى بـ «المجلس الأعلى لتنظيم الاعلام» ـــ الذي تشكّل منذ حوالى عام برئاسة الصحافي المخضرم مكرم محمد أحمد، المعروف بولائه الشديد للسلطة وعدائه لـ «ثورة يناير» ـــ بمنع بث إعلان تلفزيوني لإحدى شركات الهواتف الخليوية بعنوان «حقاً النت ظالم» من «بطولة» الشخصية الخيالية «أبلة فاهيتا». جاء ذلك بحجة أنه «يحتوي على ألفاظ ومشاهد لا تليق بالذوق العام، وتجافي كل القيم، وتحض على السلوك السيئ وتخدش الحياء».

الخبر جاء بعد يوم واحد من خبر تحويل المخرج عمرو سلامة إلى النائب العام بعد بلاغ ضده بازدراء الأديان في فيلمه «شيخ جاكسون» بسبب مشهد خيالي يظهر فيه شبح المغني الأميركي الراحل مايكل جاكسون داخل مسجد. وأيضاً جاء قبل يوم واحد من قيام أحد المحامين برفع دعوى ضد البرنامج الكوميدي الساخر «من الدوبلكس» الذي تقدمه أبلة فاهيتا، ويومين من اعلان إحدى القنوات عن وقف عرض مسلسل «سابع جار» بشكل مؤقت بحجة موسم الأعياد، بينما يؤكد عاملون داخل القناة بأن السبب هو ما أثاره العمل من انتقادات «أخلاقية»!
منذ أسابيع، تتلاحق أخبار من نوعية قيام شركة «فالكون» المتخصصة في الأمن والتابعة للأجهزة الأمنية بشكل غير مباشر، بشراء شبكتي قنوات «الحياة» و«العاصمة» في صفقات مشابهة لصفقة شراء «ايجل كابيتال» لـ «اعلام المصريين»... في الوقت الذي تتواصل فيه الأخبار يومياً عن مشروع قانون «تنظيم الصحافة والاعلام» الذي تقدمت به الحكومة لتمريره من البرلمان، والتخوفات التي يثيرها بسبب مخالفته العديد من بنود الدستور الحامية للحريات، ومن امكانية استخدامه ــ في حال تمريره ــ لفرض مزيد من القمع وتقييد حرية التعبير.
ومنذ أشهر، يتردد تعبير «تأميم الصحافة والاعلام» في أوساط الاعلاميين والمثقفين وصفحات التواصل الاجتماعي في مصر، لوصف ما يحدث من ممارسات حكومية وأمنية مباشرة وغير مباشرة، ليس فقط لمراقبة المضمون الذي تبثه وسائل الاعلام والتحكم فيه، بل أيضاً للاستحواذ «مادياً» على المؤسسات الاعلامية من صحف ومحطات تلفزيونية وإذاعية.
ومع أن الذين يطلقون التعبير، يستخدمونه غالباً كوصف بلاغي يقارن بين الممارسات الحالية والقرار الذي اتخذه الرئيس جمال عبد الناصر قبل 57 عاماً بتأميم الصحافة في ظل نظام اشتراكي تخلت عنه الدولة مع حلول السبعينيات، إلا أن المقربين من دوائر صنع القرار والوسط الاعلامي يعرفون أن المسألة ليست مجرد استعارة وبلاغة. ما يحدث في مصر هو بالفعل «تأميم» يتم وفقاً لقرارات عليا وخطة مدروسة ومعدة سلفاً.
هذه العلاقة «الثلاثية» بين الاعلام ورجال الأعمال والسلطة الحاكمة معروفة من أيام الرئيس مبارك. وخلال السنوات الأخيرة من حكمه، كانت معظم الصحف ومحطات التلفزيون والراديو مملوكة لرجال أعمال مقربين من السلطة وأجهزة المخابرات المختلفة، ولكن بشكل غير معلن حتى لو كان معروفاً.
الفرق الآن أن الأمور معلنة. لا أحد يحاول إخفاءها، بل على العكس يتباهون بها، حتى الصحافيون والاعلاميون الصغار يجلسون في المقاهي ويتحدثون عن علاقاتهم ولقاءاتهم بالضباط. كما أن كبار المسؤولين يتحدثون بوضوح حول نجاحاتهم للسيطرة على الاعلام ومصادرته و«تأميمه».
آخر هذه النجاحات صفقة شراء حصة أبي هشيمة في «اعلام المصريين» التي تمت على مراحل بداية من الضغط على قنوات «أون. تي. في» لمنع بث بعض المواد، والتخلص من بعض المذيعين، ثم قيام رجل أعمال (واجهة) بشراء قنوات «أون»، وعدد من وسائل الاعلام الأخرى، ثم بيع كل هذا لشركة أخرى أكثر قرباً من صناع القرار. وبذلك، تنضم كل هذه القنوات والصحف إلى قائمة الوسائل الاعلامية التي باتت تملكها الدولة من خلال أجهزتها الأمنية وأذرعها الاقتصادية.
سيطرة الدولة ورجال الأعمال على وسائل الاعلام ليست جديدة، وليست خاصة بمصر، لكن المشكلة الأكبر هي الخسائر المتلاحقة التي تعانيها الكيانات الاعلامية الحالية، حتى باتت معظمها غير قادرة على الانفاق على المحتوى الذي تبثه أو حتى دفع مستحقات العاملين فيها خسائر تتزايد مع توالي صفقات البيع والشراء، وعدم وجود خبرة أو سياسة واضحة أو حرية تعبير، داخل مؤسسات مهترئة غير قادرة حتى على تقديم خدمة ترفيهية للمشاهدين. كما يبرهن ما حدث مع «أبلة فاهيتا» ــ أحد البرامج القليلة جداً الناجحة التي وجدت لنفسها صيغة كوميدية تعتمد على الايحاءات الجنسية الخفيفة ــ أن الكوميديا السياسية أصبحت غير مقبولة منذ الاطاحة ببرنامج باسم يوسف.
حتى مسلسل اجتماعي خفيف مثل «سابع جار» نالته اتهامات بالحض على الرذيلة وتشويه سمعة البلد، مما دفع «سي. بي. سي» التي تبثه إلى وقف عرضه بشكل مؤقت قبل أيام من نهاية العام. وتواصل مسلسل المنع مع مسلسل الانهيار الاقتصادي لمنظومة الاعلام في مصر في وقت نسمع فيه عن أرقام بالملايين والمليارات يتم ضخها داخل هذه الكيانات لا يظهر لها نتاج على الشاشات أو جيوب العاملين فيها. ويتوقع أن يزداد الأمر سوءاً مع إنشاء «لجنة الدراما» المنبثقة عن «المجلس الأعلى للاعلام». وقد تم الاعلان عن تشكيلها منذ أيام برئاسة المخرج محمد فاضل، بهدف مراقبة المسلسلات. مرة أخرى المسألة لا تتعلق بخسارة حرية التعبير فقط، لكن تنذر بخسائر بمئات الملايين لصناعة الدراما المصرية، التي خسرت بالفعل مبالغ طائلة خلال عام 2017.