ليس هناك من خبير في هذا البلد، ضليع في «الاعلام» و«الاعلام الجديد»، وليس هناك من معنيّ بالصحافة من قريب أو بعيد، إلا ويطالعك بالمقولة نفسها. تسمع النغمة إيّاها، يرددها أصحابها بكل ثقة، بصوت عال، وبنبرة يشوبها الاستنكار وتعتريها السخرية: «جريدة ورقيّة جديدة اليوم في بيروت؟ خلص! انتهت الصحافة الورقيّة!»… طبعاً هناك علامة استفهام كبرى مرسومة حول مصير الصحافة الورقيّة، في المنطقة والعالم، تستند الى مجموعة من المعطيات التي نعرفها (ونعيشها) جميعاً، في هذا الزمن الافتراضي.
ترى ماذا تغيّر وسيتغيّر في زمن الويب المربّع web squared وقريباً الـ web 3.0 ؟ ما سيكون عليه الوجه الجديد للصحافة، في ظل ما ستتيحه الشبكة العنكبوتيّة، في صيغتها الثالثة، من مجالات تعبير جديدة وتشبيكات اجتماعيّة، وسبل إيصال معلومات واختراع ظواهر واشتباك ذاتي مع العالم بقضاياه ومعارفه وابتكاراته وصرعاته ونجومه، وفي ضوء كل اللغات والوسائل والامكانات والثقافات الجديدة التي يفرزها، ويشرك الافراد في صنعها، ويعمّمها على «اليوزرز» (المستخدِمين) بطريقة نسمّيها «ديمقراطيّة»؟ لكن هذا السؤال المستقبلي غير المحسوم، لم يمنع استمرار الصحافة الورقيّة وانتشارها (وظهور منابر جديدة)، بل وارتفاع مبيعها مجدداً بشكل ملحوظ في الآونة الأخيرة، في هذه الحاضرة الغربية أو تلك، بعد تحوّل تلك الصحافة عضويّاً، وتأقلمها مع تحديات العالم الرقمي. هل نعطي للمرّة المليون مثلاً عن حجم انتاج الصحف الورقيّة في كيان العدوّ؟
أما في لبنان، فما نسمعه من تنبؤات شؤم على طريقة كاسندرا، ليس الا دليلَ كسل وعجزٍ عن المواجهة، واستقالةً أو تهرباً من المسؤوليّة. من السهل القول إن اللعبة انتهت، من دون فهم أسباب الانهيارات وديناميّات النهوض. الصحافة اللبنانيّة، كي تنبعث، مطالبة بثورة حقيقيّة على نفسها: في الشكل والمضمون. ثورة على طرق التفكير البائدة، وانماط الانتاج الفرديّة الريعيّة العائليّة القديمة، وأساليب التفكير والتعبير التقليديّة. فهل هذا ممكن؟ وكيف؟ والصحافة اللبنانيّة مطالبة بقفزة سريعة في عالم الويب الاجتماعي التفاعلي، بالكلمة والصورة والصوت والفيديو، مطالبة بتجديد أدواتها في انتاج المحتوى بقوالب ولغات وأشكال مغايرة. لكنّها لا تواجه بالضرورة حكماً مبرماً بالإعدام، ولا تخضع للعنة إغريقيّة محتومة. كلا، هذا اختزال وكسل وتهرّب من فهم الواقع، وتحمّل المسؤوليات. التراجع والانحسار والاحتضار البطيء وانفضاض القرّاء، آفات ليست حتميّة، بل سببها «خيانات» للأمانة، وسببها ثقافة وذهنية وميكانيسمات لم تتطوّر، ولم تراجع نفسها، ولم تطرح على نفسها التحدّي. وهذا ينطبق على الجميع بلا استثناء.
وها هي صحيفة جديدة تبصر النور في بيروت، لتؤكد أن الرهان ممكن، والمستقبل مشرّع أمامنا إذا كنّا على مستوى التحدّي. بالأمس ظهر العدد الأوّل من «الاتحاد» التي نحتفل بها جميعاً. إنّه ليس إلا «عدد أوّل»، وكل الذين مرّوا بالتجربة يعرفون حجم المصاعب والمطبّات قبل أن تجد جريدة جديدة هويّتها وشخصيّتها الكاملة، التي لن تتوقّف عن التحوّل ـــ بأية حال ـــ في علاقة تفاعليّة مع الواقع والمرحلة. لكنّها مناسبة للاحتفال. زملاؤنا وزميلاتنا رفعوا التحدّي، وانطلقوا في المغامرة، وهذا هو الأهم. وبمعزل عن الحسابات الصغيرة ـــ فالمنافسة تحيي وتحفّز وتخصب ـــ نحن على يقين من أن نجاح هذه التجربة إنما سيحسب لكل أهل الصحافة في لبنان، ولكل الاعلام ورقي والكتروني وتلفزيوني واذاعي و… نجاح هذه التجربة سيعيد الاعتبار الى المهنة، ويعيد الامل بإحياء تخصصات وقطاعات مهدّدة تقوم عليها صناعة الجريدة وتوزيعها من التحرير والتصوير والتنفيذ الفني، إلى الطباعة والتوزيع… نجاح «الاتحاد» قد يحفّز على ظهور صحف جديدة. طبعاً الويب سيكون أذكى وأسرع وأقصر ومباشر وأقرب إلى المتلقّي ومتعدد المدارك، لكنّه لا يستطيع الا أن يؤكّد على شرعيّة المضمون كما تنتجه الجريدة، ليكون امتداداً أو استكمالاً له، أو العكس بالعكس. إنها جدليّة القارئ - المستخدم!
كلا الصحافة الورقيّة غير محكوم عليها بالاعدام. شكراً لـ «الإتحاد» التي تذكرنا بذلك. نحن من يبعثها أو يفرّط بها. إن الرهان ما زال ممكناً ومطلوباً. بالعكس هناك مكان لأكثر من صحيفة جادة ومهنية في لبنان. الناس يقرأون، ويمكن أن نعيدهم إلى القراءة، ونفرز قرّاء جدداً، إذا عرفنا كيف نخاطبهم ونستجيب لحاجاتهم ومقتضيات العصر، عبر جسر متين مطواع بين العالمين الورقي والافتراضي. إذا عرفنا بأي الوسائل نخدم قضايا الإصلاح، ومحاكمة الفساد، ايصال المعلومات، وكشف المسكوت عنه، بكل رصانة واحترام لاخلاقيات المهنة. إذا عرفنا كيف نخدم قضايا الحريّة والعدالة والتقدّم والكرامة الوطنيّة والقوميّة. من قال إن الناس لا يقرأون؟ وما زالت عيوننا شاخصة إلى وزير الإعلام، ومن خلفه الحكومة ومجلس النوّاب، كي يسنوا قوانين ومراسيم عصريّة حضاريّة، تدعم الصحافة بطريقة ديناميكيّة، بحيث لا تكون عالة على الدولة بل قطاعاً منتجاً خصباً، وتحمي استقلاليّتها مقابل احترام قواعد المهنيّة والشفافيّة المالية. عندها ستعيش الصحف وتزدهر من جديد، وتعيش براحة، بعيداً عن اسراف الأزمنة العقيمة التي ندفع ثمنها اليوم.
أحرّ التهاني لأسرة تحرير «الإتحاد»، وكل الزميلات والزملاء الذين يخوضون هذه المغامرة. إنّكم بارقة أمل. فلنمش معاً على درب النهضة المرتقبة، ولنتنافس من أجل الأفضل!