لم تعد العواطف وحدَها السلاح الأنسب لخوض معركة الوعي مع العدو الإسرائيلي. ولم تعد «الكليشيهات» المستهلكة صالحة لـ«توجيه» جمهور راكمَ من الخبرات والتجارب ما مكّنه من ابتكار آليات مواجهة فعّالة إلى حدّ كبير، في خضم الحرب المفتوحة مع الأذرع الافتراضية للعدو والمطبّعين معه. في الأصل، سبق جمهور المقاومة بعض «الأطر المجازية»، واقتحم الفضاء الاقتراضي قبلها بسنوات طويلة، يوم كان ينظر البعض إلى مَن يمتلك حساباً على «فايسبوك» و«تويتر» بـ«ريبة وشك» أمنيَّين.
عند كل حملة افتراضية مقاوِمة، ناجحة نسبياً، تتعدّد الآراء حول جدوى الحملة ومفعولها، وتنقسم وجهات النظر، ويبرز منها «تيّار» معترض. يركّز المعترضون على ثابتة الخوف على بيئة المقاومة، وبالتالي «مش هيك تُدار الأمور». وغالباً ما تأتي مواقفهم كـ«تدخّل لاحق» وتقييمي لكل فعل وردّة فعل. هؤلاء لا يتدخّلون بشكل «سابق استشرافي مُقتَرِح أو مشارِك» في وضع الأفكار ورسم الخطوات. غير أن لصق تهمة «التطبيع» بالناشطين في حملة الردّ على الناطق باسم جيش العدو، أظهر أن ثمَة هوّة كبيرة بين الوعي المرَوَّج له، والوعي المعمول به، فضلاً عن الشخصانية والمزاجية العالية التي تتحكّم بمطلقي المواقف والحملات والاتهامات.
التنوّع الكبير في الساحة الافتراضية التي يشغلها جمهور المقاومة، حيث تتعدّد الآراء والتوجّهات والثقافات والمزاجات تحت خيمة المقاومة الكبيرة، دليل على الحركية النموذجية التي تتمتّع بها هذه الشريحة المتفاعلة والفعّالة. لكن، وعلى الرغم من ذلك، صار لزاماً على المتصدّين «للشأن الافتراضي» من بين أعضائها، وضع تعريفات عملية واضحة لمصطلحات باتت تشكّل بوابة عريضة ومطّاطة يدخل منها التخوين والاتهام، أشهرها «الوعي» و«البصيرة» و«العميل» و«المطبّع» و«الموهّن» و«المثبّط»، وغيرها الكثير.
مثلاً، لم يقل لنا أحد كيف أن أدرعي قد حقق مبتغاه من حملة الاستهزاء التي تعرّض لها. ولم يشرح لنا أحد كيف «أدخلناه إلى بيوتنا». ألم نستهزء مطوّلاً بعمير بيرتس، عندما كان وزيراً للحرب عام 2007، يوم تم تصويره وهو ينظر من خلال منظار عدسته وهي مُغلقة، وجعلنا من هذه الصورة مادة أساسية في عدد كبير من أناشيدنا التي دخلت كل بيت ونشأ عليها جيل كامل؟
الصورة النمطية المرسومة للعدو، كشيطان ذو أنياب تقطر دماً صارت بالية. إذ إنه «مش هيك نُشَيطِن عدونا». اليوم، ساحة المواجهة الافتراضية لا تقل شأناً عن ساحة مارون الراس وبنت جبيل ودير الزور وحلب وغيرها. آليات هذه المواجهة الإعلامية لا يجوز أن تبقى خاضعة لهوامش ومعاير آليات المواجهة الإعلامية أيام الجبل الرفيع والغندورية والدبشة وغيرها.
نحن اليوم نواجه العدو افتراضياً على ساحته وبأدواته التي يتيحها هو لنا. ويمكنه بـ«كبسة زر» رمينا خارج هذه الساحة، وهو يفعلها يومياً. وبالتالي، القول إننا أدخلناه عبر «الفايسبوك» إلى بيوتنا، هو في الحقيقة مجافٍ للواقع الذي يشير إلى أن العدو يستضيفنا، بمعاركنا وثقافتنا، في فضائه وحيّزه. ويُسجَّل لنا أننا ننجح إلى حدّ كبيرة في هذه المواجهة. ننجح في تحويل أفيخاي أدرعي، مثلاً، من نموذج لـ«المسؤول العسكري الإسرائيلي الإنساني المثقف والمحبّ والمنفتح»، كما يحاول أن يسوّق نفسه، إلى «مسؤول في جيش الاحتلال، خبيث، مكشوفة محاولاته أمام الرأي العام».
من الجيّد أن ننجح في مواجهة العدو بأدواته وآلياته بعد إخضاعها لثقافتنا وقيَمنا، إذ إننا لم ننجح حتى اليوم بابتكار آليات وأدوات خاصة وفعّالة. هذا ليس النصف الملآن من الكأس، هذا الواقع كما هو، وإن كان يعتريه بعض الهفوات والقصور والتقصير. ليس في الأمر غرابة، فنحن - كتنظيمات افتراضية - لازلنا نتلمّس خطواتنا الأولى في محاولة المواءمة بين متطلبات المرحلة وما نحمل من قيَم وثقافة وأخلاق. يتضح هذا جلياً في كمية التعاطف العربي مع أدرعي وكيانه الاحتلالي مِن خلفه، خصوصاً وأن المتعاطفين مع «إسرائيل» من العرب والمسلمين، ليسوا بالضرورة من المتأثرين بـ«بروباغندا» أدرعي، بل هم مِن المدفوعين بالكراهية تجاه بعضهم البعض على أساس مذهبي. هم مِن ضحايا الماكينة الإعلامية العربية و«بركات الربيع العربي».
وعليه، تعالوا لنُعمِل عقولنا ونفكّر بهدوء للتوصّل إلى آليات تضمن لنا السلوك الأمثل للتعامل مع مثل هذه القضايا «غير التقليدية»، ونُخرجها من دائرة التسرّع والانفعال والفردية المطلقة التي غالباً ما تؤدي إلى تقديم رغبة التميّز الفردي، والشعور بضرورة الإدلاء بموقف مما يجري للحاق بالركب، ما يفتح الباب على مصراعيه أما السجالات العقيمة. وهذا يؤدي غالباً إلى أن «تضيع الطاسة».