فور تبلغنا خبر إقفال «مسرح بيروت»، قصدنا عين المريسة للوقوف على رأي أهل المنطقة الذين عاشوا علاقة جوار طويلة مع هذا المكان. رجل سبعيني من أبناء الحيّ، قال لنا: ««مسرح بيروت» ذو أهمية كبيرة. لكنّنا خسرنا ما هو أهمّ. أهل عين المريسة فقدوا أيضاً البحر، لقد سرقوه منّا... وتتوقع أن يتركوا لنا المسرح؟».
يقع المسرح في منطقة وصل بين وسط المدينة ومنطقة رأس بيروت التي كانت تشهد زمن افتتاحه، أي الستينيات، فورة ثقافية وسياسيّة. هذا الموقع جعله يؤدي دوراً أساسيّاً في احتضان ذلك الغليان. من هنا مثلاً، نوقشت لغة النصوص المسرحيّة المقدمة بالفرنسية، قبل أن تنتقل إلى العربيّة الفصحى ثم اللغة اللبنانيّة العامية الملتصقة بالجمهور، والمعبّرة عن همومه الثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة.
كان 19 نيسان (أبريل) 1969 أحد أهم المفاصل في تاريخ المسرح اللبناني، حين اعترضت القوى الأمنية عرض «مجدلون» في «مسرح بيروت»، وأنزلت الممثلين قسراً عن المسرح. لكن يومها، قرّر الممثلون مواصلة المسرحية في الشارع، وراحوا يسيرون بالعرض مع الجمهور حتى شارع الحمرا، مقابل مقهى «هورس شو» حيث اصطدموا بالقوى الأمنية مجدداً، وأُوقف العرض مرة أخرى.
تُعَدّ هذه الحادثة مفصلية في تاريخ المسرح اللبناني. في «مجدلون»، مع ظهور شخصية الفدائي على المسرح، كان ذلك إحدى أولى علامات الارتباط العضوي بين المسرحيين والقضايا السياسية والاجتماعية المطروحة على الساحة الوطنية آنذاك. أما إجبار القوى الأمنيّة الممثلين على النزول عن المسرح، فدفعهم إلى جعل الشارع مسرحهم بمشاركة الناس الذين أصبحوا الجمهور الأكبر والأوسع. وهذا ما سيشهده «مسرح بيروت» لاحقاً مع تجربة «الحكواتي» التي كانت تتخذ من خشبته نقطة الانطلاق والعودة إليه في مسارها المتجول بين المدن والقرى. وخلال الحرب، استقبل المسرح اجتماعات حزبية وسياسية، وكان ملجأً للمحتمين، وحتى احتضن مجالس تعزية في عاشوراء.
يومها، كان «مسرح بيروت» الواقف على مشارف البحر، وعند أحد أبواب المدينة المطل على وسط بيروت المسلوب، يصرخ ضدّ آفة النسيان. قدم الفنانون أعمالاً تشهد على الحالة الحقيقية للمجتمع اللبناني، وتحاول فهم ما حصل خلال الحرب الأهلية، ومواجهته والتخلص منه. على خشبة «مسرح بيروت»، مثلوا ورقصوا وغنوا وعزفوا، وقرأوا أدباً وشعراً من أجل وطن حلم فيه كل فرد منهم... إنّه الفضاء نفسه الذي يسمح لجيل جديد، باحث عن هويّته فيما هو يحدّق إلى المستقبل، بأن يردّد مع ذلك الرجل السبعيني من أبناء عين المريسة: «هذا بحرنا، فأزيلوا أبراجكم كي نرى الأفق». على وقع هذا المطلب العفوي، دعت مجموعة مثقّفين وعاملين في مجال الفرجة، إلى التحرّك غداً كفعل احتجاج ومقاومة. الجيل الجديد من الفنّانين، يبدو مصرّاً على تحميل وزارة الثقافة مسؤوليّة حماية هذا الصرح، عبر إعلانه معلماً ثقافيّاً أو تراثيّاً يُمنع المساس به. القانون لا يلحظ مثل تلك المبادرات! غيّروا القانون.



منذ بداية الشهر، تتوالى «مراسم الوداع» لـ«مسرح بيروت» على شكل أمسيات متتالية تطاول الفنون التي شهدها المكان على مرّ عقود. وسيكون الجمهور غداً على موعد مع رنين الشعّار. وبعد غد، نحن على موعد مع «مشروع كورال» الذي سيقدّم أعمالاً غنائية وضعت نصوصها وألحانها خلال ورشة العمل المقامة الآن.