دمشق | في كانون الثاني (يناير) 2010، أغلقت مكتبة «ميسلون» الدمشقية أبوابها أمام الزبائن. عرضها أصحابها للاستثمار التجاري، بعدما كانت أحد أهم منابر الفكر اليساري والتنويري في سوريا طوال أربعة عقود. لم تكن المكتبة العريقة الأولى التي تلقى هذا المصير. سبقتها مكتبات كثيرة، تحوّلت إلى متاجر، أو محال لبيع الوجبات السريعة، أو فروع لمصارف تجارية خاصة غزت السوق السورية.
كانت «ميسلون» وكيلة داري نشر «رادوغا» و«التقدم» السوفياتيتين، ولأشرطة الشيخ إمام، وزياد الرحباني، ومارسيل خليفة، وخالد الهبر ... لم يصدق المثقفون اليساريون وقتها نهاية قبلتهم، فوجدوا كتبهم المفضلة تباع في مكتبات الرصيف. هذا ما أكده لنا بلال حسين الذي يتردد بشكل شبه يومي على بسطات الكتب المستعملة المعروضة على أرصفة العاصمة السورية: «قلة من الأصدقاء كانت تمتلك الأجزاء الأربعة للأعمال المختارة لأنطون تشيخوف (طبعة «دار رادوغا» السوفياتية) لارتفاع ثمنها. لكن قبل العام، اشتريت نسخة منها بمبلغ 500 ليرة سورية (حوالى 10 دولارات أميركية) وعليها ختم مكتبة «ميسلون» وعلامتها».
بعد إقفال «ميسلون»، كرّت السبحة ... لم يمض وقت طويل حتى أقفلت مكتبة «الزهراء» أيضاً، وأخذ مكانها فرع لمصرف تجاري خاص. وبدورهم، وضع أصحاب مكتبة «النهضة العربية» الواقعة بالقرب من فندق «سميرا ميس» لافتة تعرض واحدة من أقدم المكتبات الدمشقية للاستثمار التجاري، لتلحق بسابقاتها، مع بقاء أبوابها مفتوحة حتى الآن «الزوار والزبائن أصبحوا نادرين هذه الأيام، والمفارقة المؤلمة بحق أنّ بعضهم يعرض كتبه للبيع لنا بدلاً من شراء كتبنا» يقول أبو أحمد أحد أقدم بائعي الكتب في دمشق.
الإغلاق المتتالي لأشهر المكتبات الدمشقية يلخّص واقع الكتاب في سوريا، وعزوف القراء والمهتمين عن شرائه. قراءة سريعة لواقع الدورة الـ 27 من «معرض دمشق الدولي للكتاب» التي افتتحت في أيلول (سبتمبر) الماضي، قد تكون كافية للإجابة عن تساؤلات عديدة حول واقع القراءة والكتاب، وحركة الطباعة والنشر في ظلّ واقع ثقافي جديد، تأثر مثل غيره، بأحداث الانتفاضة السورية.
«ربما هي السنة الأسوأ التي نشارك بها في معرض الكتاب هذا العام» يقول عماد حورية بائع الكتب في «المكتبة العمومية» التي شاركت في جميع دورات المعرض. ويضيف «انحسرت المبيعات هذا العام، بكتب الأبراج مثل كتاب ماغي فرح الشهير الذي بعنا منه عشرات النسخ. غامرنا هذا العام بتقديم عناوين كتب سياسية حديثة، عالجت الأزمة السورية في بعض فصولها، لكننا خسرنا الرهان، وتكدست الكتب في المستودعات».
حركة البيع لم تكن وحدها المتعثرة. انخفضت أعداد عناوين الكتب الجديدة التي تقدّمها المكتبة لزبائنها بسبب الارتفاع المفاجئ لسعر الدولار. «هناك صفقات شراء أُلغيت مع دور نشر عالمية، بسبب ارتفاع سعر صرف الدولار الذي زاد النفقات علينا حوالى الثلث. وترافق ذلك مع تراجع حركة البيع الذي بلغ ذروته مع الشهر الثاني من الأحداث السورية» يقول حورية خريج معهد الفنون المسرحية، الذي امتهن بيع الكتاب ليبقى على اتصال مع هواية القراءة. وأكد «تراجع عدد النسخ التي كانت تزودنا بها كبريات دور النشر العربية، لتخوف أصحابها من أحداث الانتفاضة السورية، وكساد سوق بيع وشراء الكتاب». في مكتبة «عالم المعرفة» المقابلة لـ«سينما سيتي»، وسط دمشق، لم تكن حركة البيع أحسن حالاً. يؤكد البائع محمد النوري انخفاض أعداد النسخ التي تطبعها الدور الدمشقية منذ بداية الأحداث. «السائد الآن هو نسخ عدد من الطبعات لا يتجاوز المئات غالباً. أما مغامرة طباعة آلاف النسخ من كتاب واحد، فقد أصبحت ضرباً من الماضي».
الأزمة غيّرت الكثير من عادات تجّار مكتبات الرصيف. فقد اعتادوا كلّ عام نقل بضاعتهم خلال أعياد الفطر والأضحى، إلى أرصفة سوق الصالحية الشهير الذي تقفل جميع محاله، ليتحوّل إلى محجّ للمثقفين والمهتمين بالكتاب الذين ينتظرون أيام العيد، باحثين عن بعض العناوين التي يفضل أصحابها عرضها في هذه الأيام بالذات لإدراكهم قيمتها. لكن آزاد الملا أحمد، الآتي من الشمال السوري للعمل في مكتبات الرصيف، فضّل عدم المغامرة في عيد الأضحى الماضي، واحتفظ ببضاعته مكدسة في بيته «الأجواء التي تعيشها البلاد فرضت على الناس عدم المغامرة بشراء الكتب، مهما كان سعرها بخساً، والاحتفاظ بالمال للأيام الصعبة الآتية. مع أنني كنت أنتظر موسم العيد الذي يعوض عن ضعف البيع طيلة العام، لكنني فضلت عدم المغامرة في عرض بضاعتي، وأعتقد أنني أصبت في ذلك، هذا ما أكده زملائي في المهنة التي أعتقد أنها تعيش أيامها الأخيرة الآن».



متجر أحذية وصيدليّة ... وسناك

حركة إقفال المكتبات السورية بدأت قبل «ميسلون». عرضت «مكتبة اليقظة» في شارع المتنبي للبيع، وتحوّلت «مكتبة العائلة» في ساحة النجمة إلى صيدلية. أما «مكتبة الزهراء»، فقد أصبحت في جزء منها مقهى إنترنت، فضلاً عن المكتبات التي آلت إلى محال لبيع السندويشات، أو إلى دكان أحذية، كما حصل مع مكتبة «فكر وفنّ» في اللاذقيّة.