رواية صدرت قبل انطلاق الفضائيات العربية. ولولا هذا لقلنا إنها كُتِبَتْ لتكون مسلسلاً رمضانياً قد يخطف الأضواء من دراما البيئة الشامية. صحيح أنها رواية شامية بامتياز، إلا أنها كتبت باللغة الألمانية وصدرت عام 1989 لتترجم بعد ذلك إلى أكثر من 20 لغة كانت آخرها العربية. إنها رواية «حكواتي الليل» («دار الجمل»، ترجمة رنا زحكا) للروائي السوري رفيق شامي.تظهر الرواية كأنها فصل من سيرة رفيق شامي الشخصية، لكونها تتحدث عن زاوية محددة من حياة المؤلف ومرحلة الصبا. إلا أنها في الحقيقة، كتبت لتسلط الضوء على طبيعة المجتمع وقت إعلان «الجمهورية العربية المتحدة» أو الوحدة بين مصر وسوريا. تبدأ أحداث الرواية عام 1959 حين يصاب الحكواتي الأشهر في دمشق سليم العربجي بالخرس! سليم العجوز الذي «كان بوسعه سرد قصص تُبكي وتُضحك مستمعيه حتى لو كانوا رجالاً بقلوب من صخر، قد أصبح فجأة رجلاً أخرس»، وصار محل حيرة أصدقائه السبعة، العجزة أيضاً، الذين اعتادوا سماع قصصه المثيرة والغريبة كل ليلة.
قدّم رفيق شامي تركيبة مهمة تقترب من تركيبة المجتمع الدمشقي آنذاك: فيها الحدّاد ومعلم الجغرافيا والحلاق والوزير السابق، ثم السجين السابق الذي أمضى 24 عاماً وراء القضبان لجريمة لم يرتكبها. ونجد القهوجي وتوما المغترب الذي عاش سنوات في أميركا. تركيبة يدخل من خلالها المؤلف إلى عوالم دمشق نهاية العقد الخامس من القرن الماضي، زمن الوحدة بين مصر وسوريا. ثلاثة عناصر يعتمدها المؤلف ليبني روايته: طبيعة المجتمع، والزمن بطبيعته السياسية والاجتماعية، ثم الخرس الذي أصاب أشهر حكواتي في الشام الذي اتخذه المؤلف رمزاً لحالة راح يفصح عنها بما لا يحتمل اللبس.
لعلنا نتلمس تقارباً بين شخصية المؤلف الذي عاش الغربة لأكثر من 40 عاماً وتوما المغترب الذي تعرَّف إلى جبران خليل جبران في غربته. التقارب بين المؤلف وتوما يتضح من خلال اهتمامه بالأدب، وأيضاً حين يبوح بهموم الاغتراب ومرارته: «في الغربة، تعرفت إلى بؤساء ورجال ينحدرون من أرفع وأغنى العائلات رمت بهم الغربة ليصبحوا عتالين في المرفأ. إلا أن الغربة أهدتني لسان طفل، وسرعان ما مُني لساني بقلب طفل ليتلاءم معه... كنت أتحدث بقلب ولسان طفل، وصبر جميل».
«حكواتي الليل» الرواية التي رفض طباعتها 23 ناشراً ألمانياً، حصدت بعد ثلاث سنوات من صدورها ست جوائز أدبية، وتجاوزت طبعاتها حتى اليوم المليوني نسخة. رواية لا تنقصها المتعة. تصوّر لنا مدينة دمشق وهي تنتج الأسطورة كما تنتج المقبِّلات «الأساطير والبقلاوة المحشوّة بالجوز والفستق ليست سوى منتجات عادية لهذه المدينة». لذا، نجد الأسطورة مهيمنة على أحداث الرواية؛ إذ يتخذها الأشخاص مهرباً من واقع ثقيل يفتقر إلى المتعة.
ورغم أن رفيق شامي حمَّل روايته دعوة إلى إجادة فن الإصغاء، وتذوق الكلمات عن طريق الصمت المناسب في الوقت المناسب، إلا أنه يحاول في النهاية العودة بالقارئ إلى الأسطورة من خلال شكّه في إصابة سليم العربجي بالخرس: «مرت ثلاثون سنة، لكنّي ما زلت مقتنعاً إلى يومنا هذا بأنه لم يعلم أحد من أبناء حارتنا آنذاك إن كان العربجي العجوز فقد صوته فعلاً أو أنه استغفل ببساطة أهل الحارة كلهم!».