«رافع الناصري ـــــ رسام المشاهد الكونية» بتوقيع مي مظفر، و«رافع الناصري حياته وفنه» بتوقيع صباح الناصري ومي مظفر، كتابان جديدان صدرا عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر»، ويسردان تجربة التشكيلي العراقي رافع الناصري. الكتاب الأول الذي وضعته زوجة الفنان، الشاعرة والناقدة، ينقل حياته منذ بداياته الأولى. تقدّم مظفّر دراسة نقدية عن هذه التجربة التي استمرت نصف قرن، وما زالت تتألق من خلال المعارض في العالم العربي وأوربا وأميركا. أمّا الكتاب الثاني، فيحتوي على دراسات وأعمال فنيَّة، وإشارات ومعلومات عن معارض الناصري، إضافةً إلى مقالات مختارة باللغة الإنكليزية لسعدون فاضل، ومي مظفر، وايتل عدنان، وسلوى مقدادي. غالباً ما يوصف عمل رافع الناصري بالسحر، لأنّه يأسر المشاهد، مأخوذاً بدهشة الأشكال والألوان والتقنية الجديدة.
لم يسبق لفنان عربي أن قام بشيء مماثل، حين استخدم الناصري الأكريليك على الخشب عام 1971 ضمن معرض مجموعة «الرؤية الجديدة». نستعيد في هذين الإصدارين، تجربة الناصري في إدخال الحرف العربي إلى اللوحة، وجعله عنصراً مركزياً بقوة تعبيرية أخاذة، تنجذب إليه كل عناصر العمل الفني الأخرى. وهذا ما خلَّص الحرف العربي من أن يكون مجرّد قيمة زخرفية جمالية، بل جعله عنصراً قادراً على تحقيق مزاج متنوّع، يؤدِّي فيه اللون دوراً أساسياً.
بعد عودته من الصين، أقام رافع الناصري معارض عديدة في بغداد وبيروت بتجربته الواقعية التي سيهجرها إلى التجريد. في هذه المرحلة، نقرأ عن ثورة داخلية عارمة مشحونة بالعاطفة، أفرزت عن سلسلة «أعمال ورقية»، المشغولة بالأكريليك ومواد أخرى على الورق. هنا، تظهر تكوينات تجريدية تتسم بحرية الحركة، وتنساب في شكل تهويمات لونية سائلة، تصف الأجواء الأثيرية التي اكتسبها من تجربته الصينية. وقد أضاف إلى هذه التجربة تقنية الكولاج والتلوين، لتحقيق أجواء بالغة الرهافة والحساسية، تلامس روح الشعر الكامنة في الأعماق.
في مرحلة تالية وبعد انتقال الفنان من بغداد إلى عمان وبعدها إلى البحرين، اشتغل الناصري على المكان وتحولاته، حاملاً معه ذاكرته البصريّة عن مدن العراق وأنهاره وطبيعته. لا يفاجئ الناصري المشاهدين بقفزات أسلوبية. هو من الفنانين الذين يمتاز عملهم بنموٍّ عضوي من الداخل. يمضي بخطى تأمليّة تتنامى من خلالها أشكاله، تبعاً لمسار رؤيته وتطور مهاراته التقنية. حين شرع الناصري في البحث عن أشكاله التجريدية، لجأ إلى الحرف العربي الذي وجد خصائص ثقافية وشكلية متميّزة. خصائص تجعله قابلاً لتمثيل لوحة يكون الحرف فيها ذا طابع تعبيري مرن ومتنوع، لا مجرّد عنصر تزيينيّ مضاف. نقرأ في الكتابين عن دلالة المكان الروحيّة في أعمال الناصري، التي تبدو أشدّ تأثيراً من دلالته الفيزيائية. المكان لم يعد محدداً بالجغرافيا، بل يتمثل في بعده الروحي، كجزءٍ من ذاكرة الفنان. بعد امتزاج التقنية الغربية مع التقنية الشرقية في تجربة الناصري، أصبحت لوحته تمزج بين السماء والأرض بلا حواجز، لتنصهر في شخصية فنية لا تلامسها عينٌ إلا أدركت أنها رافع الناصري. يبدو الكتابان مهمّين للراغبين في دراسة تجربة هذا التشكيلي العراقي.