تأتي أعمال الفنان الفلسطيني ستيف سابيلا (القدس، 1975) من أمكنة شائكة وملتبسة. لا يزال اليقين فيها في طور التشكّل. لا يحيلنا التأمّل في أعمال هذا الفنان الشاب المقيم بين لندن وبرلين، إلى خلاصات قطعيّة، بقدر ما يضعنا أمام المزيد من الأسئلة والقناعات المركبة التي يعيشها أي فلسطيني مقدسي، بوعي مختلف. صورة سابيلا ليست حميمية، وتأخذ موقفاً من المعنى التوثيقي للصورة. إنّها محاولة لتحليل مفهومَي الهوية والانتماء من دون شروط مسبقة.
الانتماء ليس مجرّد ولاء للمكان، بالمفهوم الوطني التقليدي. الصراع على الأرض ليس لاكتساب بضعة أمتار إضافية. الانتماء ليس فعلاً قسرياً قطيعياً، بل هو خيار لامحدود، فرَضَته التحوُّلات العميقة في أدوات الاتصال وانفضاح الآلية التي تحكم الصراع السياسي. لم يعد المنفى عند سابيلا فعلاً جسدياً خالصاً، فماذا عن المنفى الذهني؟
منذ مشاريعه الأولى، بدا سابيلا واعياً للفضاء المشحون الذي يعمل فيه. الانطلاق من مكان استثنائي، بكلّ ما فيه من أمنيات وأحلام وخيبات، يمكنه أن يقود العمل الفنّي بطريقة غير مباشرة إلى مقولات تقليدية ونمطية. القدس اليوم باتت حقلاً فكرياً مفخخاً: لكلّ واحد منّا قدسه التي تعنيه. لكنّها في النهاية صارت رديفاً للإقصاء والإلغاء والتحايل العلني على التاريخ. سابيلا تجاوز القدس غربية أو شرقية. قفز فوق الحميميات الصغيرة محاولاً الإمساك بمدينته كاملة. ربما كانت هذه الفكرة منطلقاً لمشروعه «القدس في المنفى» (2006) الذي قام من خلاله بتحرير المخيلات الفردية والجماعية تجاه هذه المدينة. بين المشتهى والواقع البشع، كانت النتائج سلسلة أعمال ذهنيّة تنفصل عن الواقع وتؤسس لظرف افتراضي. القدس حرة ولو في المخيّلة. سابيلا الفائز بجائزة «إيلين أورباخ» من «أكاديمية برلين للفنون» عام 2008، عايش مفهوم النفي بأشكال مختلفة، ولذلك فإنّ التغريب في تجاربه يبدو فجّاً وقاسياً، وخصوصاً عند التعامل مع هندسياته التلقائية التي تحيلنا دائماً إلى ظرف بصري شائك ومعقد. غبش الرؤية يأتي من واقع صعب ومؤلم. لم يعد النفي يأخذ بعداً اجتماعياً وإنسانياً، بقدر ما صار نفياً للجغرافيا والتاريخ، وليس فقط الأفراد والجماعات. هل يمكن أن يتعرّض المكان للنفي أيضاً؟
محاولات سابيلا المتعددة لنقل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من شكله التقليدي إلى فضاء سيكولوجي خاص، حرره من المقولات الجاهزة التي تتعقّب الإبداع الفلسطيني. عمله الذي حمل عنوان «فلسطيني وستة إسرائيليين» يفتح الباب أمام جدل طويل حول خصوصية العلاقة بين الإسرائيلي والفلسطيني من منظور هوية الذات والآخر. وكذلك مشروعه «منتالوبيا» (2007) وهو عبارة عن بورتريهات متنوعة لفنانين من أرجاء العالم، على طوابع بريدية. في هذا العمل ينسج سابيلا خليطاً من الهويات والجنسيات التي يعيد تركيبها وتوزيعها بما يوحي بأنّ الهوية بمعناها التقليدي صارت شكلاً فولكلورياً، ولا بدّ من إعادة خلق تعريفات جديدة، ومنطقية للكثير من المصطلحات، والمفاهيم الجيوسياسية. في معرضه «الحبور وما بعده» الذي يستضيفه «غاليري الربع الخالي» في دبي حتى 11 حزيران (يونيو)، لا يغامر سابيلا كثيراً في الابتعاد عن خصوصيته البصرية، في إعادة قراءة لوجعه الوطني الدائم من خلال توليفات بصرية. تنتصر في المعرض عين المصور في التقاط تفاصيل وجزئيات بسيطة، تشبه البهجة والنشوة العابرة. للوهلة الأولى، ستبدو الأعمال غير متجانسة، لكنّها سرعان ما تضعنا أمام مَيل سابيلا إلى تحرير أعماله ولو بشكل جزئي من ذهنيتها المألوفة. نتذكر عمله الذي حمل عنوان «مخرج» (2006) وهو سلسلة صور لأيدي عجائز، صورها في أحد مستشفيات إيرلندا. الصورة هنا تهجر جمالياتها، وتتحوّل إلى وعاء لجملة من الأفكار والانفعالات المتضاربة التي يمكن القول إنّها تقوم على خدعة من نوع ما. الخدعة يمكن التقاطها في ذلك الالتباس الذي يمرّره العمل، وسرعان ما تكتشف أنّه ينقلب عليك ويأخذك إلى فضاء آخر. في عمل «النشوة» مثلاً وهو عبارة عن صور ثلاثية (طباعة لامبدا ــــ 127×155 سنتم)، تبدو الصورة أقرب إلى فضاء ظليل من قمم أشجار متعانقة... ثمّ تتكشّف أمامنا تلك الشروخ والتصدعات، لتحيلنا إلى انكسارات عميقة مستترة، خلف ما يشبه الزخرفة والتجميل المفتعل.
يؤسس سابيلا في مجموعة «سيسيل إيليز سابيلا» (طباعة لامبدا وحياكة على قطن ـــ 110×60× 3 سنتم) لمشهدية لا تبدو مألوفة كثيراً في تجاربه السابقة. الخامات القماشية الأصليّة تحمل بين ألوانها وقطبها حنيناً مضاعفاً. الحميمية المفرطة في هذه التجارب تختلف كثيراً عن قسوة يمكن تعقّبها في أعمال سابيلا. الرهان هنا على حميمية مصدرها ألوان ونقوش وأقمشة تؤسّس لحالة صريحة من الافتقاد والخسارة.
ابتعاد سابيلا الحالي عن القدس، فتح أمامه نوافذ جديدة يطلُّ منها على مفهوم المنفى. أعمال سابيلا الأخيرة صارت أقرب إلى الزمان من المكان. وهذا رهان جديد يبدو أنّ سابيلا يقتحمه في صراعه الذهني الدائم مع العلاقة في المكان.



Euphoria and Beyond: حتى 11 حزيران (يونيو) المقبل ـــ «غاليري الربع الخالي» (دبي)
www.theemptyquarter.com