الدار البيضاء ــ نظّم شباب أحد المقاهي الأدبيّة في الدار البيضاء، لقاءً مع عبد الله الطايع، الكاتب المغربي المقيم في فرنسا، لمناقشة روايته الجديدة «يوم الملك». تأتي هذه الرواية الصادرة أخيراً عن «دار سوي» الفرنسيّة، لتضيف ضجةً على الضجة حول مسار الكاتب الإشكالي الذي قد يكون أوّل مثقّف عربي يعلن مثليّته الجنسية.
قبل عبد الله الطايع، لم يكن مسموحاً حتى تخيّل الملك المغربي الراحل، الحسن الثاني. الرجل كان حاضراً في كلّ شيء: في الدراهم والأوراق النقديّة، عبر الأثير من خلال التلفزيون والراديو، على عرض الصفحات الأولى للجرائد، وعبر الملصقات العملاقة التي تحتل شوارع البلاد، فضلاً عن دعوات خطباء الجمعة في مساجد المملكة. كان العاهل المغربي الراحل في كل مكان... لكنّه للمرة الأولى يدخل ـــ بصفته واسمه وجلالة قدره ـــ عالم الرواية المغربية المكتوبة بالفرنسية، أو بالأحرى المكتوبة في فرنسا، على يد روائي شاب (38 عاماً) ظلّ يثير الزوابع أينما حلّ... وها هو اليوم يعود ليصنع الحدث مجدداً، من خلال عمله الروائي الجديد «يوم الملك». «لقد انتصرت على الملك الحسن الثاني»، يقول الطايع، متحدثاً عن روايته الجديدة التي كانت ممنوعة في المملكة، قبل أن يطلق سراحها منذ أسابيع. لكن كيف يقول إنّه انتصر على الحسن الثاني، وهو لم يكن معارضاً سياسياً، ولا ذاق عذابات سجونه في سبعينيات الجمر والرصاص؟ الروائي المشاكس يصمت لحظات قبل أن يجيب: «رغم أنني لم أعش تلك السنوات، لكنني كمغربي، مرتبط بكل أولئك الذين عانوا من ذلك العهد. عنف تلك المرحلة السياسية، كان حاضراً بقوّة في مخيّلة من كانوا يحيطون بي. لمست مع أبناء جيلي، كيف أنّهم لا يريدوننا أن نمارس السياسة. وهذا أمر مهم جداً لأنّه بمجرد أن تعي أنك قد خضعت لعمليات غسل الدماغ التي تخرجك من التعاطي بشؤون الحاضرة، وقضايا الناس والوطن، فهذا الأمر في حد ذاته فعل سياسي وممارسة سياسية».
في «يوم الملك»، يغادر ابن الأحياء الفقيرة لمدينة سلا المغربية، همومه الجنسية التي طغت على روايتيه السابقتين «أحمر الطربوش» (2004)، و«كآبة عربيّة» (2008). وها هو يمارس الحكي والسرد والوصف في «يوم الملك». إنّه يتخيل، يحلم: يتراءى له في بداية الرواية أنّه «يقف بين يدي جلالة الملك». هو الآن مبهور بهيئة السلطان، مرتبك وخائف حدّ السقوط في المسافة الفاصلة بين يد الملك ويده. الآن يضحك على تعثّره، وسقوطه أمام حاشية البلاط الملكي. يزداد ارتباكاً وخوفاً. إنّه الآن يقترب. يستنشق عطر السلطان، ولا يعرف كيف يقبّل يداً ملكية. «لماذا هذا الحلم يا عبد الله؟» يسأل.
يقول الطايع: «لا يمكن أن تتحدث عن المغرب من دون تناول شخصية الحسن الثاني أو العكس، وتفكيك مسؤوليته عن كل ما حدث في المغرب ما بعد الاستقلال».
يعتقد الكاتب المغربي باللغة الفرنسيّة، أنّ فنّ الكتابة نوع من التعبير عن تطوّر معيّن، وقد يكون عبارةً عن تحوّل في ذات الكاتب، وأحاسيسه، ووعيه السياسي، ونظرته إلى الماضي أيضاً... «أظنّ أنّ جعل الحسن الثاني شخصيّة من شخصيات روايتي الأخيرة كان أمراً ضرورياً. فعل الكتابة يمنحك نوعاً من الشجاعة. وهنا، لا أتحدث عن تلك الشجاعة المتعارف عليها في القاموس اليومي، لكنني أتحدث عن شجاعة تخرجني من خوفي. لأنّني منذ اليوم الذي قررت فيه البدء في الكتابة، كان يجب أن أتوقف عن الخوف من أبي، ومن أمي، ومن كل الباقين. أعتبر التطور الذي أعيشه اليوم كإنسان وككاتب طبيعياً، لأنّه كان يجب أن يأتي يوم أتوقف فيه عن الخوف من الحسن الثاني في الكتابة. أما في الواقع، فهذا شيء آخر».
أما زال في جعبة هذا المتمرِّد شيء آخر ليقوله؟ ألا يكفيه أنّه قال للمغاربة في أحد الأيام وبصوت عالٍ: «أنا مثلي وأحبّ الرجال». ثمّ عاد ليرفع السقف مجدداً، وهو يتخيّل نفسه متعثراً أمام يد ملكية؟ نسأله: «ماذا تقول لكلّ المحافظين الذين يتهمونك باستغلال حياتك الجنسية من أجل الشهرة؟» يردّ: «هم أحرار في أن يعتقدوا ما يريدون، لكنّني آسف لهذا الأمر، هذه الأحكام المطلقة لن تساعد المجتمع المغربي في التطوّر، ولا الفرد المغربي في التحرّر». ويضيف: «عدم الاعتراف بفردانيتي وبشخصي. هو أمر لم يحدث لي وحدي، لكنها حال كل الناس في مجتمعنا. قليلون هم الذين عاشوا فردانيتهم أو من انتزعوا حقهم في أن يكونوا ملكاً لأنفسهم. وهذه مشكلة خطيرة في هذا البلد. نحن لسنا ملكا لأنفسنا وهذه الفكرة يربوننا عليها الآن. أستغرب كيف يجعلك عنف هذا المجتمع تعيش وحدة قاتلة كأنك تقيم وحدك على المريخ. هذا العنف الذي يعيشه أي مغربي وعشته أنا كطفل مثلي من دون حماية لم استطع التخلص منه حتى اليوم، كما لم أستطع التعبير عنه كاملاً في أعمالي الأدبية».
كعادته يريد عبد الله تعرية كلّ شيء. يتكلّم من دون وجل عن الفروق الطبقية التي تتسع في المملكة اتّساعاً وحشيّاً ومخيفاً، ويطالب المسؤولين المغاربة بأن يعوا «أن الوحشية الرأسمالية يستفيد منها بعض الناس مؤقتاً، فيما ملايين المغاربة لا يجدون ما يأكلونه». كيف نصنّف هذا الكلام في القاموس السياسي؟ يجيب عبد الله الطايع: «لا يمكن أن أكون إلا يسارياً».