قد يكون أحد أكبر رجال المسرح العربي الحديث، طبع وجدان أجيال في الطريق الملتوية بين فاجعة وأخرى، وصنع مع حفنة من المعلّمين فرادة المسرح اللبناني وخصوصيّته. لكن هل نعرف حقّاً ريمون جبارة؟ لقد صهر أسلوباً يشبهه، جامعاً بين العبثيّة والشعر، الواقعيّة والغرابة، السخرية المرّة وحزن قابض على خناق المشاهد كلعنة. لكن «صانع الأحلام»، دونكيشوت الثقافة اللبنانيّة، يبقى لغزاً، يفلت منا بأسراره، بوصفته السحريّة، وكل ما لا يقوله. بتناقضاته المقلقة، وقلقه المرَضيّ، وأسئلته واتهاماته وخيباته، انحرافاته وانزلاقاته السياسيّة المؤسفة.
بوفائه لأصوله الطبقيّة المتواضعة، وعدائه المعلن مع البورجوازيّة، وتمرّده على السلطة العسكريّة والسياسيّة والدينيّة والاجتماعيّة، تمرّد سياسي وفلسفي ووجودي... وفي الآن نفسه بمواقفه المحافظة. لن نفهم أبداً صاحب مسرحيّة «شربل»، هذا الفنّان الفطري الذي حيّاه مبكراً الناقد ميشال كورفان ـــ «مطر محمّد» المسرح اللبناني. فهو يخاطبنا بالايحاءات بلغته التلغرافيّة، يخفي بمهارة أسراراً، خجلاً، حقداً (طبقيّاً)، يأساً مزمناً، فراغاً، دونيّة، نقصاً ثقافيّاً. كلّها روافد ممكنة لعبقريّته، لكنّها لا تفسّر اللغز. من هذا المعين الذي لا ينضب يغرف أيضاً جبارة المعلّق (في الاذاعة والجريدة) على الحياة اليوميّة في برج بابل العظيم. لكنّ كلماته لا تتألّق، وتبلغ أوجها، إلا على الخشبة. هنا يلعب الصمت دوره، والظلام أيضاً. والممثلون الذين تقوم بينه وبينهم علاقات طقوسيّة خاصة. إنّه فنّان كبير إلى درجة يرغمك على أن تحبّه من دون شرط، تكرهه وتحبّه، ترتعد فرائصك لبعض خياراته، ثم تمحو كل شيء وتحبّه. ريمون يقول القليل، لكن حواراته مكتوبة بدراماتورجيّة المؤلّفين الكبار. الأشياء القليلة التي يقولها تختصر كل شيء. تخاطب الوجدان كما العقل، الذائقة المترفة كما الميل الغوغائي إلى «اللطشة» الآنيّة. كلماته الشعبيّة في ظاهرها، الفجّة أحياناً على طريقة اسم الشخصيّة التي يؤدّيها رفعت طربيه في «مقتل إنّ وأخواتها»، هي في النهاية مصقولة بعناية كما الجواهر النادرة، بصرامة الشعراء، لتختزل وتكثّف، لتقودنا على دروب مفاجئة. يقاطع جمله قبل النهاية غالباً، هذا الممثّل الاستثنائي الذي لمع في المصاف الأخير مخرجاً ومؤلّفاً، تاركاً لمخيّلة المتلقّي أن تبني انطلاقاً من تلك المقاطع والمشاهد ما تريد، كل ما لا يقال. «أنا أتوجّه للفيلسوف وشوفير التاكسي» كان يردد لطلابه في «معهد الفنون». وهو فعلاً يسكن اليوم وجداننا بصور ومشاهد لا تنسى. ما زلنا نرى كميل سلامة يخاطب جدّته في السماء بالتلفون الأحمر الذي يكاد يكون أكبر منه. ونسمع الراحلة رضا خوري (التي وجّه إليها ريمون غمزة في «فاصل هزلي» في مستهل المسرحيّة الحاليّة) تسأل بأسى: «ليش العصافير المملوشة بتشبه بعض؟».
لا ينبغي أن ننسى أنّ «جامعة اللويزة» هي التي انتجت العمل، ولها فضل كبير بذلك على الثقافة اللبنانيّة. كما لـ «مسرح مونو» الذي يتجرّأ أكثر على كسر قيود الأصوليّة «الفرنكوفونيّة» أخيراً، فضل في احتضان المعلّم الآن في العاصمة، لننهي معه العام. نعم، عمل ريمون جبارة الذي يعرض حاليّاً في بيروت حدث نادر، حدث كبير لا ينبغي أن يفوتكم. نلتقي من الرعيل «الجباريّ» الأوّل رفعت طربيه، ومن الرعيل الثاني غابريال يمّين وجوليا قصّار. ليست أفضل مسرحيّاته، لكنّها تختزن كل عالمه ورؤيته وخطابه. كل عناصر المعادلة الجباريّة موجودة في «مقتل إنّ وأخواتها» هذا الطقس الأرابالي (نسبة إلى فرناندو أرابال) الذي قد يبدو للبعض كوميديا عاديّة، يبلغ ذروته مع الموت على طريقة «فاندو وليز»، في تلك المواجهة الميتافيزيقيّة والاجتماعيّة بين السمكري («السيّد محظوظ») والفيلسوف المحبط («الدكتور مأيّر»). كل ريمون هنا، في تلك النظرة الساخرة إلى زمنه ومعاصريه، في الموقف النقدي من المؤسسة الدينيّة، ومن خلال الاصغاء حتى الرمق الأخير إلى فصام المثقفين وأوجاع أبناء الشعب. يميني ريمون جبارة؟ ممكن للأسف. إنما فوضوي أيضاً. ألم نقل إن هذا الفنّان الفذّ سيبقى لغزاً في ذاكرتنا الثقافيّة؟