البارحة كتبتُ قصيدةً صغيرةً عن قذيفةٍ أرجو لها أن تضل طريقها! لم يبق لي سوى هذا، بعدما جنحت كل التفاصيل الكبرى إلى أن تعيش جحيمها. مخاطبة التفاصيل والأشياء الصغيرة ربما تغدو أكثر جدوى طالما أن علينا المحافظة على بعض البقاء في هذه الجحيم. مناجاة القذيفة، أو تعلّم الطريقة الأنسب للموت، أو مدح الخسائر والقبول بها، بات طقساً ميكانيكياً يومياً، أتمرن عليه، وأنا أنتظر في السيارة التي أسكنها حتى نعبر الحواجز.
هنا أتعلم مجدداً كيف أستغل الوقت، إذ بات يصعب عليّ الاستماع إلى التفاصيل التي يكررها السائقون على مسامع الركاب، عن مشاهداتهم اليومية في شتى أنحاء دمشق وريفها، أو ما تبقى من الأحياء التي يمكنهم أن يذهبوا إليها، ومع الانتظار الطويل، ارتفع في رأسي هرم تتوالد التفاصيل في قاعدته، فتعلو طبقاته، بينما ينغرز رأسه في سقف الجمجمة، ومع كل تفاصيل جديدة تزداد حدة الألم في أنحاء الدماغ..

■ ■ ■


دمشق في العيد، كئيبة، هزيلة، وجهها أصفر ويميل نحو الدكونة، دمشق التي أجرّها إلى المرآة كي ترى نفسها، تصرخ بي، وتقول لي: ألا ترى شروخ قلبي؟!

■ ■ ■


قبل قليل، في حي الزهور، الأطفال الذين كانوا يتأرجحون مصدّقين أنها هدنة العيد، لم يعودوا إلى الأرض.. أرواحهم بقيت عالقة، تتأرجح أعلى فأعلى، تباً له من عيد..

■ ■ ■


أبحثُ عن مقطوعة بيانو لرحمانينوف كي لا أبكي، أتخيّل أنها ستساعد الشياطين على الخروج من عقلي، ربما ستدلهم على الممرات الآمنة، حيث لا أفكار عن الحب والشمس والريح. قطعة موسيقية لرحمانينوف في شتاء قطبي طويل، وبكاء تتجمد دموعه لتصبح نوازل حادة، تتساقط وتنغرز في جسد الأيام.
بيانو، وظلام، ودم.. أبحث عن معنى الموسيقى، ولا أستبعد أنها مجرد نوع من البكاء..

■ ■ ■


وماذا لو بكيت وحدك في آخر الليل.. هل ستهدي الأطفال في الصباح ضحكاً غزيراً كمطر؟

■ ■ ■


أمام بناء الهجرة والجوازات، كانتا هناك، امرأتان صبية وعجوز، ترتديان السواد، كأنهما قد خرجتا من لوحة رسمها لؤي كيالي، حيث لا ضوء في المكان، سوى ظل شمع يحترق ينسكب في الوجهين.
كلتاهما تبكي، نحاول أن نفهم قصتهما، لكن الخفر والخجل، وربما الموقف ذاته، يجعلنا أنا وزويا نتردد، الصبية تقول للعجوز: أنا لم أفعل شيئاً أستحق أن أشكر عليه، والعجوز تلح في الشكر والدعاء.. والبكاء..
قبل يومين، كنا نقف هناك، حيث الطابور الطويل من السوريين الذين يريدون أن يغادروا. لا شيء يحدث، سوى أننا نرى وطناً انطفأت الشمس فيه، وشيئاً فشيئاً لا يبقى لدى سكانه سوى ضوء العيون وهو يذوي كدموع..

■ ■ ■


مقترح تعريف جديد للرعب: هو تجويف في العقل، يقع بين المعتاد اليومي، والخيال، إنه في المنطقة التي تتهشم فيها التفاصيل، فلا تعود مدركةً، ولا معروفة. وكذلك على الحافات المجرّحة للخيال: حيث لا يرى الإنسان سوى الذئاب البشرية.. كدرجة أولى من سلّم طويل.. في كل درجة من درجاته كائنات وحكايات أشد وحشية..

■ ■ ■


في الليل أغلقت الباب وتركت الشباك الحديدي مفتوحاً. الباب المغلق قد يمنع أشباح الكوابيس من الدخول، ولكي أشعر بالأمان. تركت التلفزيون يعمل. «الناشيونال جيوغرافيك» أقل القنوات إثارة للرعب بالنسبة إليّ. وبعد رقاد قصير، سمعت الباب يفتح، ورأيت الشباك يغلق، كانت أصواتهم مزيجاً من انفجارات عميقة وطلقات رصاص قريبة. بينما كانت شاشة التلفزيون متوقفة على عتم مضبب.
أغلقتُ عيني، ثم عدت لأسترق النظر إلى ما يحدث، كان كل شيء كما تركته، فلا أحد فتح الباب، ولا ريح أغلقت النافذة، وحدها الأصوات كانت قد مرت ثم رحلت. أشباح الكوابيس، ضيوف الليل، هواجس النهار..

■ ■ ■


الآن وفي دمشق، ورغم كل شيء، غيم أبيض موشى بالسواد، ريح خفيفة باردة، أصوات الأذان، يخترقها صوت ورشة تعمل في بناء مجاور. تفاصيل عادية، أتشربها وألم الرأس كما هو، بانتظار صوت الانفجار المقبل!
* شاعر سوري