باريس | في كتابه «النظام الفوضوي، حياة ألبير كامو الفلسفية» (فلاماريون)، سعى الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفري إلى إعادة الاعتبار إلى صاحب «الطاعون». كتاب أونفري لا يعد رحلة في أعماق فلسفة كامو وأدبه فحسب، بل يلقي أيضاً نظرة نقدية على الحركة الأدبية والفكرية في فرنسا القرن العشرين، تتصدى بمعول الهدم للكثير من «الأصنام الفكرية» المكرسة، وفي مقدمتها «رسول الوجودية» جان بول سارتر. كتاب أونفري مناسبة للعودة معه إلى الجدل القائم منذ نصف قرن حول موقف ألبير كامو (1913 ـــ 1960) من الثورة الجزائرية، وهل كان صاحب «الإنسان المتمرد» موالياً للاستعمار؟ ماذا يقول أونفري عن هذه الاتهامات، التي عادت بقوة هذا العام تزامناً مع الذكرى الخمسين لاستقلال بلد المليون شهيد؟
■ بصرف النظر عن تلك الجملة التعيسة التي قالها كامو «بين العدالة وأمي، أختار أمي»، التي كثيراً ما استُغلت على نحو مغرض من قبل خصومه للترويج بأنّه كان موالياً للاستعمار، كيف تفسر الحضور المحتشم للجزائريين، حتى لا نقول تغييبهم في رواياتي كامو الأبرز «الغريب» و«الطاعون»، فيما كانوا يمثلون أغلبية السكان؟ لماذا أطلق تسمية «عربي» على كل الأهالي من دون استثناء؟

تلك العبارة لم تكن تعيسة. التعيس هو أسلوب تأويلها من قبل السارتريين، الذين لم يكونوا يطيقون حرية ألبير كامو الفكرية. يجب علينا أن نرمي كل مؤلفات كامو في سلة المهملات، وخصوصاً «العادلون»، إذا أردنا التعامي عن فهم معنى هذه العبارة. حين يقول كامو إنّه بين العدالة وأمه يختار أمه، يجب أن نفهم التالي: إذا كانت العدالة تحتاج إلى ظلم لتقوم، فإنها ليست بعدالة حقيقية، ولن أدافع عن عدالة كهذه، لأني أفضّل الوقوف في صف الضحية البريئة، التي ستدفع ثمن هذه العدالة لمجرد أنّها قد تكون حاضرة بالمصادفة في مكان تنفجر فيه قنابل العدالة! على المهتمين بهذه المسألة أن يقرأوا أو يعيدوا قراءة «العادلون»، فمضمون هذه المسرحية ورسالتها الفكرية والإنسانية يشهدان على صحة هذا الفهم.
أما بخصوص روايات كامو، فإنها بالفعل لا تضع الأغلبية الديموغرافية للبلاد في المشهد الذي ترسمه عن الجزائر، لكن هذا المعطى لا يمكن أن يُشهر ضده للطعن في مواقفه الفكرية أو السياسية! لا شيء يجبر الروائي على أن يكون بمثابة عالم اجتماع. الروائي حرّ في اختيار موضوع كتاباته الروائية ومعالجته بالأسلوب الذي يروقه. في رواياته، لم يتحدث كامو أيضاً عن اليهود، بالرغم من أن وجودهم على التراب الجزائري يمتد إلى أكثر من ألف سنة. ولا أظن أنّ من الإنصاف القول إنّ ذلك يجعله مناهضاً لليهود! وإذا كان كامو قد وصف الأهالي في أعماله الأدبية بـ «العرب»، فمن سوء النية أن يقرأ البعض ذلك قراءة عرقية أو عنصرية. وذلك ما روّج له، مثلاً، الراحل إدوارد سعيد، الذي لم يكن هنا في أحسن حالات الموضوعية الفكرية، لأنّه مارس على كامو نوعاً من «سوء النية النضالية». كامو لم يقم سوى باستعمال مصطلح رائج في اللغة الفرنسية، وأحيل منتقديه على معجم «روبير»، الذي يقول: «في الفرنسية الشعبية الحديثة، ونتيجة لاستعمار المغرب في القرن التاسع عشر، فإن كلمة «العربي» أصبحت تُستعمل كمعادل لكلمة «مغاربي».

■ يقول كامو: «مدينة الجزائر هي مدينة إيطالية قبل كل شيء، وراهن وهران فيه شيء من إسبانيا، وقسنطينة تذكّر بطليطلة. المدن التي أتحدث عنها هي مدن بلا تاريخ». من هذا المنطلق، يتهمه بعض النقاد بأنّه لم يعط فرصة للجزائريين لسرد تاريخهم عبر أعماله الأدبية؟
لا يمتلك أحد صلاحية مطالبة كامو أو أي أديب آخر بأن يبرّر أسباب اختيار شخوص وموضوعات رواياته، ولا طريقة معالجته للأحداث. أعمال كامو تواجه على الدوام محاولات لمحاكمته على النوايا. البعض يلومه على الكتب التي كتبها، والبعض الآخر على الكتب التي كان يجب أن يكتبها ولم يفعل. يجب تذكير هؤلاء المنتقدين برواية كامو غير المكتملة «الرجل الأخير» التي لم يمهله الموت لإتمامها. كان مزمعاً على أن تكون رواية ضخمة على طريقة تولستوي، الذي كان كامو شديد الإعجاب به.
من خلال هذا النص، تعهّد كامو تناول تلك القضايا الإشكالية التي كانت عرضة للكثير من الانتقادات بخصوصها. توفي كامو في حادث السير المأساوي المعروف، لكن هذا النص الذي تركه (كان مخطوطه بحوزته في السيارة التي قضى فيها) يعبّر بما فيه الكفاية عن حقيقة مواقفه، لكن ذلك لم يكن كافياً لوقف الافتراء المتواصل ضده، عبر أساليب تذكّر بـ «المحاكم الثورية» التي كثيراً ما أعجبت سارتر ومريديه!

■ يقول كامو: «في اللحظة التي يحمل فيها المظلوم السلاح باسم العدالة، فإنه يضع قدماً في معسكر الظلم». أليس هذا إنكاراً لحق المقاومة والنضال ضد الاستعمار؟ ماذا كان ينبغي أن يفعل الجزائريون حيال النظام الكولونيالي؟ ألم يجربوا معه كل «الوسائل السلمية» قبل 1954؟
ما هي طبيعة كل هذه «الوسائل السلمية»؟ منذ القمع الذي حدث في سطيف وقالمة في 8 أيار (مايو) 1945، أصبح واضحاً للعيان أنّ المناضلين الجزائريين من أجل الاستقلال الوطني تخلّوا عن أي مسعى نحو السلم أو التفاوض أو الديبلوماسية أو الذكاء أو التعقل! ينبغي التذكير بأنّ الجزائريين هم الذين اختاروا طريق العنف، وأنهم هم مصدر العدد الأكبر من القتلى الجزائريين في حرب التحرير! في هذا السياق، مثّلت «واقعة ملوزة» مجزرة رمزية ذات دلالة بالغة الأهمية: 303 مدنيين جزائريين ذُبحوا من قبل مواطنيهم الجزائريين...
بالعودة إلى كامو ومواقفه، فإنه منذ أن بدأ يكتب في الصحافة خلال الثلاثينيات، جرّب كل شيء في مجال الكفاح ضد النظام الكولونيالي، بدءاً بمساندته لـ «مشروع بلوم ـ فيوليت»، ودفاعه عن حقوق الأهالي من خلال التشهير بمساوئ النظام الكولونيالي، وصولاً إلى تحقيقه الصحافي البارز «الفقر في منطقة القبائل»، كما أن كامو كان في طليعة النضال ضد النظام الكولونيالي، باقتراحه حلولاً محلية مثل «كونفدرالية الدواوير». يجب ألّا ننسى أيضاً احتفاء كامو بعبقرية الجزائر الديونيزوسية منذ عام 1937، لكن الأفكار والحلول التي كان كامو يؤمن بها، لم تحظ بالقبول من قبل الذين اختاروا أسلوب العنف منذ 1945.



■ ألم يكن كامو «نيتشوياً يسارياً»، ما قاده إلى قول «نعم» للنظام الكولونيالي؟ ألم يحاول التوفيق بين العبد وسيده؟ والمصالحة بين النظام الكولونيالي والنظام التحرري؟
القول إنّ كامو قال «نعم» للنظام الاستعماري حماقة كبيرة! تكفي قراءة ولو سريعة لأعماله لتبيان النقيض تماماً لهذا الادعاء. على أعداء كامو الكفّ عن اجترار هذه المحفوظات الإيديولوجية، والعودة إلى أعماله إذا أرادوا الحكم عليه على نحو موضوعي.

■ ما رأيك في العريضة التي وقّعها مثقفون جزائريون عام 2010، للاعتراض على مجيء «قافلة كامو» إلى الجزائر، في مناسبة الذكرى الخمسين لرحيله. قالوا عن كامو إنّه كان «كاتباً وصحافياً كولونيالياً، ومناضلاً ملتزماً حتى النخاع بخيار الجزائر الفرنسية»؟
هذه أكاذيب لا تستحق أدنى اهتمام أو تعليق. هذه الادعاءات المنافية للحقائق التاريخية تنزع أي صدقية عن أشخاص يدّعون أنهم مثقفون، ويوقّعون كلاماً مماثلاً. حياة كامو وأعماله تشهد على مواقف مناقضة تماماً لما يزعمه هؤلاء. على المثقف أن يفكر بحرية، بعيداً عن حسابات السلطة، وألا ينساق نحو الترويج لأساطير تختلقها سلطة بلاده بحثاً عن مشروعية غائبة. أقول للمثقفين الجزائريين الذين وقّعوا تلك العريضة إنّ ما يميّز المثقف الحق هو القدرة على مقاومة الخرافات والأكاذيب، التي تبتدعها السلطة القائمة.

■ زرت الجزائر خلال الإعداد لكتابك عن كامو، واقتفيت آثاره في الأماكن التي نشأ وعاش فيها. كيف وجدت الجزائر بعد خمسين سنة؟
خلال زيارتي إلى الجزائر، تنقلت بين الأمكنة والمدن والأحياء التي عاش فيها كامو، وقابلت في شوارع مدينة الجزائر أناساً يتحدثون اللغة الفرنسية، ويحبون الثقافة الفرنسية، وتحدثت معهم مطولاً، وبكل حرية.
لم أعثر لدى الشعب الجزائري البسيط الذي أحببته من اللحظة الأولى، على خطاب يشبه خطاب الطبقة المهينة والحاكمة، ولم أجد لدى ناس الجزائر صدى لتلك اللعنات التي لا يكف بعض المثقفين عن إطلاقها ضد كامو. ولمست ميدانياً إلى أي مدى كان كامو محقاً في قوله إنّ لدى الشعب الجزائري عبقرية خاصة، لكنّ النخب المهيمنة لا تعير تلك العبقرية الاهتمام الذي تستحقه. لذا، يبقى الاستقلال في الجزائر معركة لم تنته بعد!



كتاب يعيد اكتشاف الفيلسوف «المتمرد»


ما هي المقاربة التي اعتمدها ميشال أونفري لتقديم رؤيته إلى ألبير كامو في كتابه «النظام الفوضوي، حياة ألبير كامو الفلسفية» (فلاماريون). بعد دراسة كل كتبه من روايات ومسرحيات ومقالات وتأملات، قاطعها أونفري بمراسلات منشورة أو غير منشورة أو غير معروفة بعثها صاحب «الطاعون» إلى عدد من الأصدقاء. وقد ارتكز أونفري إلى أربع مراسلات أساسية: مراسلة مع جان غرونييه، أستاذه في الفلسفة في الجزائر، الذي التقاه عام 1932، وجعله يكتشف بيرغسون، وفيرلين والموسيقى. وهناك مراسلة مع الشاعر الجزائري جان سيناك المسحور برامبو وجان جينيه وأخرى مع باسكال بيا الذي وظّف كامو في أيلول (سبتمبر) 1938 في صحيفة Alger républicain مطلقاً إياه في المضمار الصحافي.
وأخيراً، هناك مراسلة بين كامو والشاعر الفرنسي رينيه شار، الذي أعرب عن إعجابه بـ «الانسان المتمرّد» في إحدى الرسائل. جمع ميشال أنفري هذه المراسلات وقاطعها مع أعمال الروائي والفيلسوف الفرنسي ليخرج ببورتريه فريد عن فيلسوف حسّاس وعاطفي، وفيّ وكريم، وأحياناً هش وضعيف، ومتردد، وقليل الثقة بنفسه. يكتب أونفري: «كان كامو يكتب كي يُقرأ ويُفهم للمساعدة في الوجود والعيش». يضيف أونفري: «كان كامو فيلسوفاً متعوياً، وثنياً، براغماتياً، ونيتشوياً. وفوق ذلك، كان ابن فقر ووفياً لأهله. كان يملك كل ما يُنفر صنّاع الشهرة منه، وكل ما يغريني ويغري الكثير من القراء
اليوم».




المتعوي الذي يقارع الليبرالية

ميشال أونفريه (1959) الذي زارنا في بيروت عام 2009 على هامش «معرض الكتاب الفرنكوفوني»، حيث وقّع كتابه «اللجوء إلى الغابات»، فيلسوف حسي ومتعوي، ينتمي إلى نزعة إلحادية يسارية، ويشتغل تحت راية فيلسوفين رئيسيين، هما فريديريك نيتشه وجيل دولوز.
أسّس عام 2002 الجامعة الشعبية في مدينة كان Caen (شمال فرنسا)، حيث راح يدّرس «التاريخ المضاد للفلسفة». أصدر أكثر من ثلاثين عملاً وكتاباً. يرتكز مشروعه على تشكيل نظرية خاصة بمذهب المتعة، تكون أخلاقية كما نقرأ في عمله «نحت الذات»، وسياسية كما في «سياسة المتمرّد»، وابستيمولوجية كما في Féeries anatomiques. يركز الفيلسوف الفرنسي على مصالحة الإنسان بجسده، هو الذي ينظر إلى الفلسفة باعتبارها فنّاً للعيش، يسمح للإنسان بالتخلّص من أوهامه. قارئ فرويد يبشّر بفلسفة مرتبطة بالتحليل النفسي، ويعرّف نفسه بأنّه «فرويدي ماركسي». معحب كبير بنيتشه، اشتهر أونفري بتمرّده على الدوغمائية الدينية. في عام 2012، حلّ مكان المؤرخ بنجامين ستورا في اللجنة الموكلة بتنظيم معرض مخصّص لألبير كامو في مدينة أكس آن بروفانس، المقرر إقامته عام 2013، لكن بسبب الصراعات السياسية والمحلية حول هذه القضية، تخلّى نهائياً عن هذه المسؤولية.