يُعَدّ كامل شيّاع (1954 ـــ 2008) من المفكرين القلائل الذين تنطبق عليهم خاصية المثقف العضوي، وفقاً للفهم الغرامشي. شغل الكاتب العراقي منصب مستشار في وزارة الثقافة العراقية، بعدما قرر العودة الى بلاده إثر الاحتلال الأميركي، علّه يبني حركة ثقافية جديدة. وكان قد أمضى سنوات طويلة في المنفى الاختياري، وهو يُجيد أربع لغات. خلال حكم «البعث»، رفض الانتماء إلى الحزب، فآثر مغادرة وطنه عام 1979 مستقراً في بلجكيا بعد إقامة قصيرة في الجزائر حيث درّس اللغة الإنكليزية. حصل على الماجستير في الفلسفة من «معهد هوغر» (بلجيكا) عن أطروحته «اليوتوبيا معياراً نقدياً» التي حازت درجة الامتياز. كغيره من المبدعين والمثقفين والعلماء في العراق، اغتيل شيّاع في بغداد يوم 23 آب (أغسطس) 2008 بعدما كرس طاقاته العلمية منذ عودته إلى وطنه الأم للنهوض بالثقافة العراقية.
نُقلت أطروحة شيّاع «اليوتوبيا معياراً نقدياً» (دار المدى) أخيراً إلى اللغة العربية، وقد عرّبها سهيل نجم، وترجمها صلاح نيازي، وهي تنهض على ثلاثة مفاصل أساسية: اليوتوبيا وسياقاتها، اليوتوبيا معياراً نقدياً (استقى منها العنوان) وبلوخ واليوتوبيا. تميزت أطروحة شيّاع بالدقة العلمية من حيث المنهج وتنظيم الأفكار وعرضها ونقدها. بدا عمله العلمي شديد الكثافة، كما لو أنه نصٌّ متراصّ. لم يتخذ موقفاً إيديولوجياً من الأفكار التي درسها، شُغل دوماً في مساجلة الأدبيات الغربية التي طاولت اليوتوبيا منذ عصر النهضة إلى الوقت الراهن.
ويشار إلى أنّ اليوتوبيا مصطلح يوناني يعني «اللامكان»، ويتخذ معنى «الطُوبى» لارتباطه بالمدينة الفاضلة أو المتخيلة. تعبّر اليوتوبيا عن نتاج فلسفي يتخيل كاتبه الحياة في مجتمع مثالي، ويرجع استخدامها إلى العالِم البريطاني توماس مور في عمله اللاتيني utopia. وهذا النوع من التأليف يضرب بجذوره في جمهورية أفلاطون الذي حلم ببناء مدينة عادلة لا يحكمها سوى العقل. يغلب على أعمال الأدب الطوباوي أو اليوتوبي، الطابع المثالي الحالم في مجتمع فاضل. ووفقاً لهذا الطرح الخيالي، وضع الفارابي مؤلّفه «المدينة الفاضلة». ومن أبرز الإصدارات في هذا المجال «مدينة الله» للقديس أوغسطينوس و«أتلانتس الجديدة» لفرانسيس بيكون، علماً بأن العديد من الروايات حاولت خلق عالم فاضل، افتراضي في الغالب.
ناقش شيّاع في أطروحته جملة من الفرضيات التي طرحتها الأدبيات اليوتوبية. ورغم أنه يفترض أن اليوتوبيا شكل من أشكال الخيال الاجتماعي، إلّا أنه يؤسس عمله على إشكالية جوهرية «كيف يمكن اليوتوبيا أن تكون معياراً نقدياً» قادراً على مساءلة الواقع والاتجاه به نحو عالم أفضل. منذ البداية، يؤكد الباحث العراقي صعوبة تعريف اليوتوبيا (تتخذ عنده معنى «المكان الأفضل»)، فيعرض بعض التعريفات الغربية، ويقسمها إلى اتجاهين: اتجاه يرى إمكان تعريفها، واتجاه ثانٍ لا يرى إمكان ذلك. لم يكتفِ الكاتب بطرح التعريفات، بل تعامل معها من موقع السجال والحوار العلمي. رغم الحذر الذي يبديه في معالجة ضبابية المفهوم اليوتوبي ومتعلقاته، بقي شياع مهتماً ببعده النقدي، وانشغل أحياناً بالخلاصات الطوباوية التي ترى الإنسان كائناً مشغولاً بمستقبله. يعود بنا شيّاع الذي نشر أكثر من دراسة في بعض الصحف الأجنبية بينها مجلة «اسبري» الفرنسية، إلى جذور اليوتوبيا وسياقاتها. وقبل أن يفصل بحثه في هاتين النقطتين، نجده يقدم تعريفاً لهذا المصطلح الشائك، إذ يقول: «اليوتوبيا لا تتطلب خضوعاً للعقل أو مطابقة للمعايير وفق نظام ثابت... إنها تروم الوصول إلى حال تكون فيها كل الصراعات واللاتوافقات قد أُزيلت». يضيء الكاتب على المادة المنتجة للأدب الفلسفي اليوتوبي، الباحث عن عالم سعيد، ويميز بين أصل الوعي اليوتوبي الذي نجده لدى قسم كبير من الناس لكنه يبقى غير متوحد ومن دون شكل واضح، وبين اليوتوبيا بوصفها جنساً أدبياً ابتُكر بدراية وتميز بأشكال خطابية أو صورية وسمات معينة. وبناءً على سردية تاريخية لمنابع «اللامكان» وتمظهره، يلاحق شيّاع التمثلات الطوباوية لدى مفكري عصر التنوير في أوروبا الذين عملوا على تدشين عالم أفضل عبر انتصار العقل والإنسانية، إلاّ أن هؤلاء اصطدموا بالواقع، فاليوتوبيا النهضوية لم تستطع تحقيق كل نظرياتها وسط عالم معقد، قائم على صراع الأضداد في الأساس. مقاربة اليوتوبيين الأوروبيين لإنجاز عالم يسوده الاطمئنان والعدالة لم تكن واحدة. هنا يفصل شيّاع أبرز النظريات التي راهنت على هذا العالم، بدءاً من يوتوبيا مور النهضوية مروراً بيوتوبيا سان سيمون الصناعية والعلمية: الأولى كانت صدى «للأنموذج الإغريقي للمدينة ــ الدولة بما تميزت به من مجتمع علماني صغير» كما خلص الكاتب، والثانية آثرت الانطلاق من التطور «اللامحدود للطاقات الكامنة لكل فرد» واعتبرت المعرفة العلمية العمود الفقري.
وتحت عنوان فرعي «اليوتوبيا ونقيضها»، عرّج شيّاع على أهم المفكرين الغربيين الذين ساجلوا اليوتوبيين، واعتبروهم خياليين، فالفردوس المنشود على الأرض، افتراضي وخيالي، بالنسبة إليهم. ويفترض فكر «الدستوبيا» (مجموعة الأفكار النقدية المناهضة لليوتوبيا) أن المعاناة هي نقطة البداية، وهذا الخط المناقض يمتد من أوغسطينوس إلى أورويل عبر ديستوفسكي ونيتشه وفرويد.
وعبر الأسلوب الجدلي، يُسائل شيّاع الدور النقدي لليوتوبيا في ما يتعلق بثلاثة مفاهيم: اليوتوبيا والإيديولوجيا، اليوتوبيا والعنف، اليوتوبيا والكليّة. في النقطة الأولى، يشير إلى صعوبة تعريف كلا المفهومين (اليوتوبيا والإيديولوجيا)، ثم يعرض لأبرز المفكرين الذين اهتموا بهذه المسألة وفي طليعتهم كارل مانهايم وإرنست بلوخ وبول ريكور، ويخلص إلى أن «اليوتوبيا في أفضل حالاتها نقد للواقع، بينما الأيديولوجيا في أفضل حالاتها ليست إلاّ تبريراً للواقع». وفي النقطة الثانية، يفترض الكاتب أن تحقيق أهداف اليوتوبيا يتطلب نوعاً من العنف بغية الوصول إلى الهدف. ويؤسس سجاله النقدي على خلاصات كارل بوبر، المؤمن بالإصلاح التدريجي الذي حذر من المخاطر الكامنة في الفكر اليوتوبي، لأنه اعتبر أي نظرة قدسية للواقع ستؤدي بالضرورة إلى الدولة الشمولية التي تبرر العنف. يخصص شيّاع الفصل الثالث لمناقشة نظرية الفيلسوف الماركسي الألماني بلوخ عن اليوتوبيا، ويدرس قضية أساسية عنده، «اعتبار اليوتوبيا معياراً نقدياً كي يناط بها معنى جديد»؛ وبمعنى أدق قراءة « نظرية بلوخ عن اليوتوبيا التي بنيت على أساس جمع اليوتوبيا النقدية مع نقد اليوتوبيا بهدف تقويتها لا تقويضها... بغية الحفاظ على صلتها بالواقع». وقد أقام بلوخ تمييزاً بين اليوتوبيات المجردة والعملية تأسيساً على فكرة «السيرورة» التي تشكل محور الفلسفة عنده. أطروحة شيّاع التي أصبحت في متناول القرّاء العرب، تقدم أنموذجاً للدراسات العلمية الجادة، وقد خاض في أهم القضايا التي شغلت الإنسان المسكون بالمستقبل. يبقى أن شيّاع ربما بالغ بأحلامه الإصلاحية حين قرّر العودة إلى بلاده، في أزمنة القحط والعنف، وقد تعبّر الجملة التي كتبها في أحد نصوصه عن طوباويته المتأججة حين قال: «كل رجوع عن المنفى تعميق لجذوره وإيهام بخفاياه؛ أي أوجاع سرية يورث المنفى، أي شفاء يحمل الوطن؟».