في «فلاش باك» (دار الساقي ــ 2012)، تؤكّد شذا شرف الدين أنّ الفن الأدبي لا يخلق علاقاتٍ بين المتلقي والحياة، إنما يعمل على كشف تلك العلاقات، ويزيل عن جسورها أتربة وغباراً زادها الزمن كثافة وكرّسها غشاوة تحول بين المرء وأيامه، وخصوصاً الأيام الماضية التي ما برحت جاثمة فينا، وإن كنا نكابر وندّعي نسيانها. عبر ومضات سريعة، استطاعت الكاتبة أن تعرض أحداثاً تعود إلى نحو ثلاثين عاماً، أي إلى المرحلة الأكثر حساسية في تاريخ لبنان، وهي مرحلة ما قبل الحرب الأهلية، وفترة اندلاعها، وما بعدها ولا نقول نهايتها. يؤكد النص أنّه لا نهاية واضحة لتلك الحرب، ما دام البيت الواحد الذي مزقته القذائف على حاله، بل زادته الأحداث والعوامل تمزّقاً وتشرذماً، مع الإشارة إلى التحولات التي أصابت الجميع وأدخلت البشر في أتون من المذهبية والطائفية بعدما كان الانقسام سياسياً وقومياً في البدايات.
إنّها قصة عائلة لبنانية، يمكن أن تكون تجسيداً لعائلات عديدة تشبهها، حكمت عليها الظروف بأن تعيش في غربتين: خارجية يفتتح بها النص حيث الإقامة في أفريقيا، ويختتم بها حيث الذهاب الشبيه بالفرار من حالة الوطن والإقامة في أوروبا، وداخلية حيث ترك البيوت والتهجير وجاهزية حقائب النزوح والموت المجاني، سيّد الموقف ومحدِّد المصائر. وبعدسة سريعة، استطاعت الكاتبة أن تضع المتلقي وجهاً لوجه أمام مرايا محطمة ومشظاة كذاك الزمن الذي تبعثر وحاولت الكاتبة لملمة شظاياه في قالب سردي جعلت هويته معلقة، فلم نستطع حسم أمر النص، أكان رواية أم مجموعة قصصية متناسقة، أم سيرة ذاتية، ولم ينكشف نوع هذا النص على الغلاف عمداً كي تتجنب الكاتبة بعض المآخذ التي قد تطولها روائياً إن كان العمل رواية أو قصة، أو تطولها إن كان العمل سيرة كما تدل معظم المعطيات الواردة في النص. وبطريقة متعمدة، استطاعت الكاتبة أن لا تدخل في التفاصيل، وإن تكثّفت الأحداث على شكل نتف ومقاطع شبه تقريرية عن الحالة التي كانت تسود البلاد آنذاك، وفي هذا تُسجّل للكاتبة براعتها من جهة واحترامها للقارئ من جهة ثانية؛ إذ تفسح له في المجال كي يملأ بعض الفجوات التي لم تعمل الكاتبة على ملئها عمداً أو سهواً. وبهذا، تؤكّد الكاتبة ما يقوله النقاد ويتفقون عليه، وهو أنّ القارئ شريك في النص ويكتب المسكوت عنه، ويُظهر ما يغيّبه الكتّاب عادة، وخصوصاً إذا كان النص حاملاً دلالاتٍ تحيلنا إلى ما هو مرجعي موجود على خرائط الحضور الثقافي والاجتماعي والفكري.
أما أسلوبياً، ومن ناحية الشكل، فإذا تعاملنا مع العمل كرواية أو مجموعة قصصية، فإنّ النص زمني يتفق مضمونه وعنوانه الرئيس (فلاش باك)؛ إذ كان الاهتمام بالزمن على حساب غيره من التقنيات الروائية والقصصية واضحاً، وسارت الأحداث بطريقة تتابعية كرونولوجية امتدت منذ بداية السبعينيات وانتهت مع توقيع الرسالة في عام 2005. عبر ذلك، قدّمت الكاتبة تقارير اجتماعية وسياسية وايديولوجية أو وثائق تاريخية ابتعدت عن التخييل الذي يوفّر للقصة فنّيتها نوعاً ما، وذلك على لسان راوية احتكرت الأصوات السردية وغطّت على باقي الشخصيات. لم يكن لأي شخصية أو صوت سردي أي دور إن كان منفرداً وبعيداً من صوت الراوية الأساس التي أتخمت النص وأثقلته بضمير الأنا شبه الديكتاتوري الذي ذوّب غيره بشخصه ووجوده. وبفعل ذلك، غابت الرؤية السردية، إذ قدمت تلك التقاريرُ صورة عن الوعي الفعلي القائم المرئي لدى معظم اللبنانيين والفلسطينيين، ولم تظهر الرؤية في الخلاص أو ما يعرف بالوعي الممكن إلا في النهاية عندما أشارت الرسالة إلى دور الغرباء في تفريق الأهل والصحب، وكل طرف يرى الغريب حسب وجهة نظره...
أما إذا حسبنا هذا النص سيرة، فقد برعت الكاتبة في عدم الخلط بين أنواع التعبير والاسلوب الكلامي، إذ نرى كلامها عن طفولتها شبيهاً بكلام طفلة ذات حياة بريئة تنقل ما تشاهد أو تسمع أو تشعر، ثم راح الكلام ينضج شيئاً فشيئاً مع نضج الكاتبة المتكلمة لتبثّ رؤيتها في نهاية المطاف بعد نضج التجربة الحياتية المترعة بالحوادث والتحولات والأسفار. ويبقى أن نشير أخيراً إلى أننا أمام نص استطاع أن ينكأ فينا الجراح، ويقدّم جرداً لما حصل من أخطاء، حاملاً بعض المحاذير من المستقبل.