كنا نعتقد أنّ الفن قادر فعلاً على التغيير. اعتقدنا ذلك لأنّ بريخت قال لنا إنّ تلك هي وظيفته، ولأن أوغوستو بوال فتح لنا باب التابوهات عندما تساءل عمّا إذا كان الفن «أداة تعليم، إعلام، تنظيم، تأثير، تحريض على العمل»، أم أنّه «للمتعة فقط». طوال الأشهر الأربعة الماضية، تجلّى هذا الصراع بأوضح صوره: الطرف الأول كان فرقة Pussy Riot الروسيّة، والطرف الثاني امبراطوريّة فلاديمير بوتين المدجّجة بسلطة الكنيسة الأرثوذكسيّة ممثلة بالبطريرك غوندياييف.
بدأ كل شيء عندما قررت فرقة البانك المغمورة، التي تأسست العام الماضي، استفزاز أكبر التابوهات الروسيّة: براغماتيّة الكنيسة الأرثوذكسيّة في التعامل مع الرئيس الروسي، الذي تظاهر مئات الآلاف ضد ترشحه مرة ثالثة للرئاسة. في 21 شباط (فبراير) الماضي، ظهرت ثلاث فتيات (ناديجا تولوكونيكوفا، وماريا أليوخينا، ويكاترينا ساموتسيفيتش) يضعن قبعات ملوّنة على وجوههن على مذبح كاتدرائيّة «المسيح المخلّص»، تلك البقعة الأكثر تقديساً وتحريماً، وقدّمن لـ 30 ثانية أغنيتهنّ «صلاة بانك» قبل أن يتم إنزالهن عن المذبح. تضمّنت الأغنية مقدّمة بلحن كنسي بيزنطي مشهور: «أيتها القديسة مريم، يا عذراء، خلّصينا من بوتين»، إضافة إلى انتقاد دور الكنيسة السياسي (الكنيسة تمجّد الدكتاتوريّات العفنة، حامل الصليب يتقدّم الليموزينات السوداء) والبطريرك غوندياييف (البطريرك غوندياييف يؤمن ببوتين، أيها العاهر: من الأفضل أن تؤمن بالرب).
كانت العملية لتمرّ بسلام لو لم تصوّر الفتيات المشاكسات الاقتحام، ويحمّلنه على اليوتيوب في 3 آذار (مارس). إثر ذلك، اعتُقلن وحوكمن أخيراً بالسجن عامين مع الأشغال الشاقة بتهمة «البلطجة المدفوعة بالبغيضة تجاه الدين». ترافقت هذه المحاكمة مع حملات إعلاميّة روسيّة يسيطر عليها رأس المال المتحالف مع السلطة صوّرت الفتيات على أنّهن يهاجمن الدين قبل السياسة.
لكن على الطرف الآخر، كانت مؤسسات حقوقيّة تعمل لإطلاق سراح الفتيات، أولاها Freemuse التي تدافع عن حرية التعبير الفنيّة منذ تأسيسها عام 1998. في حديث مع «الأخبار»، يعبّر مدير البرامج في Freemuse أوليه ريتوف عن تفاجئه بالتغطية الإعلاميّة الكثيفة التي رافقت المحكمة، مشيراً إلى «الدور الإيجابي الذي قد تلعبه المؤسسات الحقوقيّة إذا تكاتفت». في الوقت عينه، يعبّر ريتوف عن حزنه تجاه ردود الفعل العربيّة المتأخرة: «رغم أنّ الكثير من الموسيقيين العرب يؤمنون بمبادئ سياسية واجتماعية معينة، إلا أنّ العوائق ضد تعبيرهم عن ذلك لا تُحصى». وأشار هنا إلى قضية الرابر المغربي «الحاقد» (الأخبار 15/5/2012)، وتعرّض الموسيقي المصري رامي عصام للتعذيب السنة الماضية.
لكن ريتوف أشار أيضاً إلى أنّ هناك العديد من الموسيقيين الذين يتعرضون للملاحقة والاعتقال، لكنّهم لا يحظون بالاهتمام نفسه. وهذا ما أشارت إليه أيضاً عضوة الفرقة ناديجدا تولوكونيكوفا (22 عاماً) في مرافعتها قبل الحكم: «في بحثنا عن الأصالة والبساطة، وجدناهما في عروض البانك الحمقاء. الشغف والانفتاح والسذاجة أعلى من النفاق والمكر واللباقة المحتالة التي تخفي الجرائم». في النهاية، هذا مطلب المنادين بإلغاء الرقابة الدينية والمجتمعية والسياسية، لكن لسوء حظ الفتيات، فإنّهن تعرّضن للتابو الأكبر في روسيا: العلاقة بين الكنيسة والدولة، وبشكل أكثر تحديداً: الغطاء التي توفره الكنيسة لبوتين وامبراطوريته الشمولية. أمّا لماذا علينا أن نهتم؟ فالجواب لأنّنا أكثر المعنيين بالدفاع عن حرية التعبير، ومواجهة حرّاس الفضيلة والأخلاق الذين أحرقوا كتبنا، وكمّموا أغانينا، وفلتروا لوحاتنا، وصنّفوا أفكارنا. وعندما استنجدنا بالمخيّلة، زرعوا فيها الرقابة الذاتيّة.



مصر في الساحة الحمراء

تعدّ فرقة Pussy Riot الشكل الأحدث والأكثر إخلاصاً لحركة البانك روك من خلال الصخب الموسيقي للروك، والكلمات المدججة بالسياسة، والعروض العفويّة في الأماكن العامة، واتخاذ الأسماء المستعارة وارتداء الأقنعة والملابس الملونة. منذ انبثاقها عن جماعة Voina الفنيّة، قدّمت الفرقة عروضاً في الحافلات والساحات العامة والقطارات، منها عرض أغنية Release the Cobblestones أثناء تظاهرات موسكو ضد الرئيس بوتين. يومها، رمت الفتيات الأحجار في فعل احتجاجي، ومزقن الوسائد وهن يغنين «الهواء المصري صحيّ للرئة، حوّلوا الساحة الحمراء إلى ميدان التحرير».