دمشق | تلخص مسرحية «الآنسة جوليا» إلى حد ما التناقضات والصراعات النفسية التي كان يعيشها كاتبها السويدي أوغست ستريندبرغ (1849 ـــ1912) طوال حياته التي قاربت الجنون، سواء في علاقاته الأسرية ومجتمعه، أو في نتاجه المسرحي. في هذا النص الإشكالي الذي أنجزه عام 1888، عالج أحد آباء المسرح الحديث العلاقة الجدلية بين الرجل والمرأة، والحب، والشهوة، والصراع الطبقي والتعطّش للسيطرة قبل كل شيء. هذا ما أثار العديد من التساؤلات حول سبب استعادة المخرج السوري مانويل جيجي (1946) هذا العمل تحديداً، بينما تشهد البلاد أحداثاً دموية. يقول جيجي لـ«الأخبار»: «تصلح النصوص الكلاسيكية للعرض في كل زمان ومكان.
إنه خياري الشخصي، ربما لم يلاق قبولاً لدى الأوساط الثقافية، أو الجمهور المسرحي في هذه الظروف ... رغم كل شيء، يبقى للمسرح سحره وحضوره وخصوصيته».
في قراءته الخاصة للعمل الذي يُعرض حالياً على خشبة «مسرح القباني» في دمشق، بقي جيجي أميناً للبناء الدرامي الذي رسمته شخصيتا العمل الرئيسيتان: جان (جهاد عبيد) الخادم الوضيع الذي يطمح إلى التخلص من عبوديته التي ورثها عن أهله، وتحقيق أحلامه. وجوليا (فيحاء أبو حامد) الفتاة الأرستقراطية التي تعيش تناقضاً واضحاً في شخصيتها بين كراهيتها للرجال بسبب ضعف شخصية والدها، ورغبتها في السيطرة عليهم ... رغبة ورثتها عن أمها المتحررة التي انتحرت للتخلص من تعاستها وقيودها. ينجح جان في إغواء سيدته جوليا في ليلة عيد القمر، ويقيم معها علاقة جنسية. بعد ذلك، نتابع تبادلاً للأدوار، وانقلاباً جذرياً في طبيعة الشخصيات التي تختزل إلى حد ما الصراع القائم بين الطبقات التي تمثلها، والتناحر بين المفاهيم والقوانين الاجتماعية الجديدة التي تنظم العلاقة بين الرجل والمرأة. جوليا التي تمثل الأرستقراطية، تبقى قابعة تحت وطأة الموروثات الدينية، بينما جان العبد المتسلق يتكيف سريعاً مع المتغيرات الطارئة، وينجح في استغلال لحظة ضعف الطرف الآخر إلى حدها الأقصى، ويخرج منتصراً من صراعه مع جوليا. لكنه انتصار وهمي سينتهي سريعاً عندما يسمع جرس السيد الذي يخرجه من أوهامه ويعيده إلى طبيعته الأولى. لحظات صعود وانحدار، وبحث عن الخلاص تستمر طيلة العرض.
يحاول جان إقناع ضحيته وعشيقته الجديدة بالهروب معه، بعد أن تسرق خزينة والدها، ليحقق حلمه في شراء فندق وإدارته. لكن جوليا تخاف الهبوط إلى الدرك الأسفل، والانتقال من عالم الروح إلى قبح الجسد والمادة. هذا ما يؤكده طلبها من جان في أحد المشاهد، أن يدوسها بقدميه ويذيقها طعم الذل والهوان الذي كانت هي نفسها تذيقه لخطيبها السابق قبل أن تهجره، حين كانت تضربه بسوطها لتروّضه كأنه حيوانها الأليف. في نهاية المسرحية، يعيش جان هزيمة وانكساراً، عندما يعود إلى وضعه السابق كخادم يلمّع أحذية سيده، وينتظر سماع صوت الجرس لتنفيذ الأوامر. بدورها، تفضل جوليا الانتحار على العيش تحت رحمة مَنْ أغواها لارتكاب علاقة محرمة. هكذا تنتهي دوماً شخصيات ستريندبرغ. مصائر مأسوية وتراجيدية تنتظر هذه الكائنات المدفوعة دوماً بعطش الانتقام والسيطرة على بعضها. كأنّنا بستريندبرغ المتأثّر بنيتشه، يقول إنّ الآمال التي يضعها الأفراد للتخلّص من شرطهم الاجتماعي والطبقي ليست سوى وهم.
مجمل الحلول الإخراجية التي قدمت على الخشبة لم تبتعد عن روح المدرسة الطبيعية التي تميز «الآنسة جوليا» عن غيرها من نصوص ستريندبرغ اللاحقة التي تنقّل فيها بين مدارس وأساليب مسرحية مختلفة. نجح مصمم الديكور والسينوغرافيا نعمان جود في تحويل الخشبة إلى فضاء مطبخ سويدي، يعود إلى نهايات القرن الثامن عشر، وهو المكان الذي تجري فيه أحداث المسرحية. كما حققت الأزياء التي اختارتها المصممة ستيلا خليل، الغاية المطلوبة. لكن الإضاءة المسرحية، التي وضعها نصر الله سفر، كسرت روح المدرسة الطبيعية في نقلات وتقلبات مفاجئة، أبرزت الصراع الدرامي في مشاهد كثيرة، بدلاً من الحيادية المطلوبة لعروض المدرسة الطبيعية. لم يشتغل مانويل جيجي مع ممثلين محترفين. اختار هواة، وعمل معهم أكثر من شهرين، قبل معرفتهم النص الذي سيقدمونه على الخشبة. «مللت استهتار الممثلين المحترفين» يقول جيجي، مضيفاً إنّ أحد أهم أسباب تراجع المسرح السوري هو «المحترفون الذين يفضّلون جميع مشاريعهم التلفزيونية على أي عمل مسرحي مهما كانت طبيعته، بعكس الهواة الذين عملت معهم لأنهم متفرغون تماماً للعمل المسرحي».

«الآنسة جوليا» لمانويل جيجي: 8:30 يومياً حتى 15 حزيران (يونيو) ـــ «مسرح القباني» (شارع 29 شباط، دمشق) ـــ للاستعلام: 00963112318019



غربة

في الملاحظات التي كتبها في مقدمة نص «الآنسة جوليا»، حاول أوغست ستريندبرغ التركيز على شكل محدد من الأداء التمثيلي، عندما طالب باستبعاد التفاصيل السطحية، وزوّد أبطاله بتاريخ اجتماعي وبناء نفسي متقن. لكنّ المخرج السوري مانويل جيجي لم ينجح في خياره عندما قدم عرضه بالعامية بدلاً من الفصحى. وهذا ما تسبب بخلق حالة من الغربة الحقيقية، بين ما قدمه الممثلون على الخشبة، وبين المُشاهد الجالس في الصالة. الأزياء والديكور والأكسسوارات أكدت على زمن ومكان مختلفين تماماً عن شكل الأداء والحوار المسرحي الذي قُدم على الخشبة، كأنه «الآن والهنا». يؤكد جيجي لـ«الأخبار» أن «هذه المرة الأولى التي أقدم فيها عملاً مسرحياً باللهجة المحكية. أعترف بأنه كان خياراً غير موفق في المطلق ...».