لا يقف عبد الله بن بخيت على الأطلال. في «مذكّرات منسيّة» (دار طوى)، يعود الكاتب السعودي ثلاثين عاماً إلى الوراء، بحثاً عن مادة كتابه. عودة لا تتقصد البكاء على الشباب وشيطنات الصبا، بل تسعى إلى تصوير مشاهد منتقاة بحيادية من ذلك الزمن، وتقديمها كما هي إلى القارئ. هكذا، سنقع على شخصيات واقعية، لم يعبث بها خيال المؤلف. متسكّعون ومشعوذون، ونساء يعتقدن بأن قتل «السحليّة» يجلب الشر، وشيخ يؤكّد أن الأميركان لم يصعدوا القمر، بل «جبل طوير»، وعجائز مكبوتون أدمنوا السفر إلى بانكوك بحثاً عن التدليك... والكثير من الشخصيات الحيّة المنسوخة من سبعينيات الرياض وثمانينياتها، بكل مغامراتها وسذاجاتها. قلّما يحضر الكاتب في قصصه بطلاً. هو في الغالب شخص هامشي، يكتفي بمراقبة محيطه وتدوين مجريات الأحداث بأمانة. ومن الغرابة في عالم السرد أن تكون الأمانة في نقل الأحداث عاملاً إيجابياً لمصلحة المؤلف. هكذا، سنُعجب بصياغات وقوالب لغوية عاميّة يتضمنها السرد (قبل كم يوم التقيته). لن نشعر بغرابة بعض المصطلحات السعودية، رغم جهلنا بها (طحت، المروّس، حوطة...). ربما السبب هو انخراط هذه المصطلحات والصياغات في سلاسة اللغة التي يذهب إليها صاحب «شارع العطايف».
هو أسلوب سهل ممتنع، لا يمتّ بصلةٍ إلى التعقيدات المعجمية التي باتت متلازمة للأدب السعودي. بدءاً من العنوان، يحاول بن بخيت (1952) أن يقول لنا إنه يفتح ثغرة في جدار أصمّ. هل هي مذكرات منسية أو متناساة؟ لن تكتمل الإجابة من دون اللجوء إلى بحث معمّق في الواقع الاجتماعي في المملكة، لنعرف إن كان الكاتب يتجاوز الخطوط الحمراء أو لا. في تصوّر أولي، لا يبدو الأمر كذلك. التابوهات العربية الثلاثة قلّما تُمسّ مباشرة في الكتاب. ولا يمكننا اعتبار شراء كتاب لكولن ويلسن أو السخرية من شيخ مجهول، تجاوزاً للممنوعات. كل ما في الأمر أنّ بن بخيت يستعيد تلك الصورة العتيقة لرياض ما قبل «فورة النفط». رياض الشوارع الترابية والبساطة، لا رياض اليوم التي تتسابق أبنيتها في الوصول إلى السماء، وأغنياؤها في اقتناء أكبر عدد من الخدم الشرق آسيويين. في «مذكرات منسية»، ينجح بن بخيت في فتح صفحات مجهولة من تاريخ المملكة مجدداً، بعدما قدّم في «شارع العطايف» حلقات مشابهة من مسلسل الأمس الذي لا يروق المحافظين متابعته. حفريات سردية ذات قيمة عالية، لكنها قد تفقد رونقها إنْ كرّر بن بخيت الرهان عليها في أعماله اللاحقة.