في كتابه الجديد «الثورات العربية الجديدة: المسار والمصير ـــ يوميات من مشهد متواصل» الصادر عن «دار جداول»، يعرض السيد ولد أباه من جانب تحليلي نقدي إشكاليات عديدة تتعلّق بالربيع العربي الذي هبّت رياحه التغييرية على أكثر من بلد في المنطقة. الباحث والأكاديمي الموريتاني الذي أصدر سابقاً دراسات مختلفة في ميادين الفلسفة المعاصرة وإشكالات التحول الديموقراطي، واتبع في معظم هذه الدراسات منهجاً علمياً ونظرياً، يبتعد في مؤلفه الأخير عن الكتابة الأكاديمية. حواراته الفكرية والبحثية التي شارك بها في العديد من البلدان العربية وملاحظاته الدائمة على مشاهد التغيير الحاصلة، تتحول هنا، إلى نمط من اليوميات التي تجمع بين تحليل الحدث واستنباطه بمنهج فلسفي ورؤية تأملية هادئة.
لا يرى صاحب «التاريخ والحقيقة لدى ميشيل فوكو» في الثورات العربية صوراً أو نماذج من الثورات الكبرى التي عرفتها المجتمعات الحديثة. هي ليست كثورات التنوير الأوروبي بمشروعها الفلسفي القائم على تحرير العقل من سلطة رجل الدين واستبداد الحاكم. كذلك فإنّها ليست كالثورات الاشتراكية التي انطلقت من روسيا في نهاية العقد الأول من القرن العشرين من منظور إيديولوجي ماركسي. وهي أيضاً، ليست بالثورات الليبرالية التي عرفتها أوروبا بعد انهيار جدار برلين في نهاية القرن الماضي. إنها ــــ كما يشير الباحث ـــ ثورات تحمل قيماً قصوى وتستند إلى منظومة معيارية يغلب عليها القاموس الأخلاقي الاحتجاجي من دون أن ترتكز على أي منطلقات إيديولوجية نسقية، ولا تعتمد على أي أرضية فلسفية أو عقَدية.
يعدد صاحب «مستقبل إسرائيل» ثلاثة مكاسب تاريخية نجحت الثورات العربية في تحقيقها، هي: إبداع آليات الاحتجاج السلمي الفعالة، وقبول التضحيات المترتبة عليها، وتبني خطاب تنويري حداثي يكرّس أولوية مقتضيات الحرية على محددات الهوية وخصوصيات الانتماء الضيق. أضف إلى ذلك النزعة الانفتاحية على العالم بدل الانكفاء والخصوصية الذاتية.
في فصل آخر، يرفض ولد أباه تحميل الثورات كل حاجات المجتمع العربي في النهوض والتحديث والتنمية والإصلاح، مشيراً إلى أنّ الانتفاضات الشعبية كانت ضد الاستبداد والفساد، ولم تكن أبداً من قبيل الثورات الفلسفية أو الإيديولوجية التي تختزن طوباوية التغيير الجذري والقطيعة التاريخية الصارمة. وبذلك، يمنح الباحث الأولوية للتحضير للمراحل الانتقالية في البلدان التي يجري فيها التغيير في الوقت الحالي، حيث التأثير الحاسم في مستقبل التجربتين الديموقراطيتين الناشئتين في مصر وتونس سيتمثّل في تحديد طبيعة التصور الدستوري للنظام السياسي وتوضيح منزلة المؤسسة العسكرية وموقعها من خلال رسم الحدّ الفاصل بين خروجها النهائي من الحقل السياسي، والحفاظ عليها لكيان الدولة واستمرار الممارسة الديموقراطية. ويشير هنا إلى تحديد العلاقة بين المرجعية الدينية والعقيدة العامة للدولة ومقتضيات التعددية الفكرية والسياسية في المنظومة الديموقراطية، ما يعني حسم إشكالات نظرية وإجرائية مطروحة بحدة في الساحة العربية كمرجعية التشريعات والقوانين وموقع التنظيمات الإسلامية في حقل الشرعية السياسية.
وعلى رغم الهوس العربي الواسع بالتجربة التركية والدعوة إلى استنساخها في بلدان الربيع العربي بوصفها تجربة تجمع الإسلام والعلمنة في نظام سياسي واحد، إلا أنّه بعد استفادته من ملاحظات عالم الاجتماع الفرنسي جان بيار بايار، يجد ولد أباه في أحد فصول الكتاب أنّ العلمانية التركية استطاعت تحقيق التعايش بين النزعة القومية اليسارية الموروثة عن الأب المؤسس من جهة، ونزعة دينية محافظة تجد قوة دفعها في الطرق الصوفية من جهة أخرى. وبالتالي، إنّ النزاع السياسي في تركيا ليس بين كتلتين علمانية وأخرى إسلامية، بل بين نزعتين ثقافيتين واجتماعيتين.
من هذا المنظور، يدخل الإسلام في تحديد القومية التركية نفسها، ويشكّل رصيداً قيمياً في تسيير الأزمات الاجتماعية، الأمر الذي يبعده عن الأدلجة والاستغلال السياسي ويجعله مظهراً من مظاهر نجاح العلمانية في سماتها المعروفة، من ذاتية وفردية ونزوع استهلاكي. ويرى الكاتب أنّ على الأحزاب الإسلامية العربية التي تمتلك سياقات مختلفة عن النموذج التركي أن تقلع عن أوهام استنساخه في بلدانها، وتحاول تطوير حلول نظرية وسياسية لإشكالات البناء الديموقراطي من منطلق سياقاتها الوطنية والذاتية.
يختم الباحث الموريتاني كتابه بفصل عن المثقفين وعلاقتهم بالثورات العربية، معتبراً أنّ نموذج المثقف في دلالته «الرسالية» الملتزمة، قد تراجع مقابل بروز نماذج جديدة من المثقفين تلائم منطق الدولة التسلطية: هناك المثقف المقاول، والمثقف الخبير، والمثقف الحارس، ومثقف الشاشة... كلها تعبيرات عن النموذج نفسه، حيث رجل الثقافة الذي يوظف عدته البرهانية وخبرته الفنية لتوطيد أداء الدولة التسلطية ومنحها واجهة حداثية ومؤسسية مقبولة. إلا أنّ نخباً انشقت عن هذه التنميطات وقادت الثورات الجديدة. هذه النخبة هي عبارة عن خليط من البورجوازية المتحطمة وأنماط المثقفين الحاملين للقيم الليبرالية الإنسانية من دون أنساق إيديولوجية. هكذا، تحالفت هاتان النخبتان وفقاً للكاتب مع الفئات المحرومة ريعَ الدولة والجمهور الواسع المقصي من الحراك الاجتماعي والاقتصادي.
كتاب «الثورات العربية الجديدة: المسار والمصير ــ يوميات من مشهد متواصل» يعالج الكثير من القضايا والإشكاليات المرتبطة بطبيعة الثورات العربية ومستقبلها السياسي. إلا أنّه رغم عمقها المعرفي والفلسفي، جاءت هذه المعالجة عابرة وسريعة. يمكن القول إنّ الكتاب يمنح القارئ مفاتيح فكرية وتحليلية لفهم الربيع العربي، لكنه لا يقدّم قراءة شاملة تحيط بهذه الثورات وتستقرئ مآلاتها.