يمكن اعتبار التاكسي معبراً لنبش المدن، وسائقه ليس دوماً ترافيس (روبرت دي نيرو) في «سائق التاكسي» (1976). إنه أيضاً يوسف في الفيلم اللبناني «تاكسي البلد» لدانيال جوزيف (1979) في أولى تجاربه الإخراجية. والأمر لا يقتصر على حركية هذا التاكسي فقط، بل على البلد أيضاً، إن كنا نتتبع عنوان الفيلم وما سيرويه يوسف لامرأة أميركية اسمها جوردان (كارينا لوغ). ما دام الحديث عن «تاكسي البلد»، فلكم أن تتوقعوا الكثير من التصوير الخارجي في الشريط، لكن بعيداً عن التفاصيل التي تقرّبنا من الحياة البيروتية. يمكن للتصوير الخارجي أن يكون معقّماً تماماً، أقرب إلى الاستديو إن كان المسعى هو تناوب أشخاص على التاكسي الذي يقوده يوسف (طلال الجردي). لكلّ شخص عالمه الذي لن نعرف منه إلا ما يطفو على السطح حين يتحوّل التاكسي إلى فرصة لتقديم مفارقة، أو شخصية تذكّرنا بنموذج مسبق الصنع في الأذهان. فهذا بذيء وفهلوي و«يتحرّش» بكل امرأة قد تمرّ في الشارع بمحاذاة التاكسي، وتلك عازفة موسيقية تركب التاكسي إلى الجميزة، وأخرى عجوز يقرّر يوسف أن ينزلها من السيارة حين يعلق في ازدحام، فيدخلان في مشادة. لكن كل ذلك يخضع لمزاجية يوسف والكيفية التي يتلقى بها هؤلاء الركّاب، وما يمثلون بالنسبة إليه. وفق ذلك، سيكون يوسف مركز الفيلم الذي يلتقي عنده أشخاص كثر مكرّسون لتحقيق ادعاء الشريط بأنّه كوميدي. قصّة يوسف بدءاً من طفولته في قريته في شمال لبنان والحياة الريفية على خلفية الحرب الأهلية، ونزوله إلى العاصمة، تمثّل العمود الفقري في الشريط الذي يتنقّل في فلاش باك بين هذه الطفولة وقصص الركّاب وحياة يوسف الحالية. وحين يعود يوسف في الذاكرة مستجيباً لما تحرّضه لديه جوردان، ستكون الكوميديا حاضرة أيضاً، أي سننتقل من شخصية إلى أخرى، ومن حدث «مهضوم» إلى آخر «مهضوم» أيضاً. هذه الصفة يمكن اعتمادها نقدياً متى كان الرهان على العودة إلى القرية التي ولد فيها يوسف، حيث يجمع مشاهداته الطفولية نابشاً كل ما هو كوميدي في تلك المشاهدات: كارلو الذي لا يهزم الذي يأتيه متحدّون من القرى والأماكن المجاورة، ووالده الذي «هجّ» من والدته إلى لاس فيغاس، وسرقة يوسف المال من «مزارات العذراء» في القرى المجاورة، ومن ثم قصة حبّه ومصيره العجيب كسائق تاكسي. كل ما سنتعرف إليه سيكون من خلال تلصّص يوسف الطفل الذي يبقى خارج سياق الكوميديا سواء في صغره أو حين يكبر، وصولاً إلى حلم يوسف نفسه الذي لن يكون إلا بأن يصير أفضل سائق تاكسي في بيروت.
لكن يوسف الذي لا يتحلى بأي صفة كوميدية، لن يكون إلا تحت رحمة مآزق كثيرة. هو متوتر، سيعاني الفشل في الحب، وسوء فهم الآخرين لتطلعاته البسيطة التي لا تتجاوز الجلوس خلف مقود التاكسي والتجوال في ليل بيروت. هو ليس بأي حال من الأحوال شخصية كوميدية مع أنّ بنية الفيلم تريد أن تفرض عليه ذلك. ومع البحث عن الكوميديا، فإنّ «الفلاش باك» الطويل الذي يعيدنا إلى قرية يوسف وطفولته سيختلف عن حاضره في بيروت. مع ذلك، يصرّ الشريط على تقديم الكوميديا من خلال الاستعادة الدائمة لكل الشخصيات الكوميدية في قرية يوسف، مستعيناً بالأجواء القروية في السينما الإيطالية، وصيغة تجميع الأحداث من هنا وهناك، ومن ثم تكون المدينة نقطة التحول لدى يوسف.
يتطلب منطق فيلم «تاكسي البلد» تبنّي صفات مثل البساطة والكوميديا. تتحالف الصفة الأولى مع ما مفاده أنّ يوسف البسيط لا أحد يفهمه في بيروت إلا الأميركية مدربة الرياضة، بينما يأتي التفاعل مع الكوميديا من باب استحضار الماضي حين كان أخطر حدث يمكن أن يقع في ذلك الريف هو منازلة يخوضها كارلو.
في النهاية، يفشل فيلم «تاكسي البلد» في الدراما والكوميديا إلا إذا كان تعريف الكوميديا يتمثل في تجميع شخصيات بيئية واعتبارها كوميدية عبر نقلها من موقف مفتعل إلى آخر، بينما تكون بيروت مختلفة تماماً، حيث الافتعال أكبر. شخصية يوسف تحمل توصيف الشخصية البسيطة، وهنا البساطة مرادف لرهانات تعجز عن أن تكون حتى ميلودرامية، وكما يقول أنطونيويني «لا بد من وجود سبب لكل فيلم؟» وهو الأمر الذي يتعذّر العثور عليه مع «تاكسي البلد».

* «تاكسي البلد»: صالات «أمبير» ـــ للاستعلام: 01/616600




الريف أيضاً وأيضاً

ولد دانيال جوزيف في بنهران (شمال لبنان) عام 1979. سافر أهله مطلع الثمانينيات بسبب الحرب الأهلية، فحطوا رحالهم في الولايات المتحدة قبل أن يعود شاباً إلى لبنان وينفّذ باكورته. بعد «تاكسي البلد»، ينكبّ المخرج اللبناني الأميركي اليوم على شريط ثان تدور أحداثه أيضاً في قرية لبنانية لكن خلال الحرب العالمية الثانية.