«بعد أيام جئت من الرامة إلى مكاتب صحيفة «الاتحاد»، فاستقبلك رئيس التحرير إميل توما بذراعين مفتوحتين، وأصبحت عضواً في هيئة التحرير، مع صليبا خميس وعلي عاشور ومحمّد خاصّ وعصام العباسي ومحمود درويش». هكذا يكتب سميح القاسم في «إنها مجرّد منفضة». والحديثُ عن حيفا، حيث لم يفلت الملتزمون بنضالات شعبهم من المبدعين ـــــ شعراً وأدباً عموماً ـــــ من مقاربة الصحافة. من الصعب على الفنّ أن يختار صومعةً رائقة على السفح، ولا بدّ من محترفه أن يستنشق غبار أرض الميدان، هناكَ «تحت».
بالنسبة إلى سميح القاسم، ومحمود درويش، وإميل حبيبي وآخرين، لم تشكل الصحيفة منبراً لإبداعاتهم الأدبية على صفحاتها الثقافية فحسب، بل منصّة فسيحة لأفكارهم ومواقفهم مهما بلغ ضيق الحال. كان لا بدّ لهم ـــــ وفقاً لقراءة أرشيف هذا الجزء الفلسطيني الذي بقي في وطنه بعد نكبة 1948 ـــــ من أن يكونوا موجودين في الصحيفة بالقلم والعمل والجسد.
هؤلاء الأدباء استوعبوا حرفتهم الإبداعية، ومارسوها من خلال رؤيتها جدلياً مع واقع شعبهم الذي تشظّى وجوده على محوري الزمان والمكان. كانت الصحيفة أمامهم هي الوسيط؛ الوسيط بين البقاء بقدمين ثابتتين في «حقلي السياسة والأدب»؛ والوسيط بين الكلمة الإبداعية في كلا الحقلين مع قرّاء يعملون جاهدين على تثبيت لغتهم على ألسنتهم، كبيوتهم في قراهم ومدنهم، وأشجارهم في كرومهم. أو بكلمات سميح القاسم: «بعد العمل في «الغد» و«الاتحاد» تفرَّغتَ لرئاسة تحرير مجلّة «الجديد» التي أصبحت بجهودٍ مُشتركة مع صليبا خميس، وتوفيق زياد ومحمود درويش وآخرين، المحور الأساسي والمركزي للحركة الثقافية العربية التقدّمية لدى الجماهير العربية المحاصرة، عقوداً باهظةً من الزمن الباهظ». هذه المنشورات التي أصدرها الحزب الشيوعي جمعتِ السياسي بالثقافي كموضوعات، وكذواتٍ مبدعة فاعلة في ميادين يبدو للرائي اليوم أنّها «بعيدة الى حدّ التنافر».
يجدر بهذا أن يثير أسئلة عديدة لدى جيلنا الراهن من الصحافيات والصحافيين الذي جاء المهنة في عهد التخصّص المتشدّد. فقد توسّع حيّز تغطية الصحيفة ووسيلة الإعلام عموماً، فابتعد السياسي عن الاقتصادي، وكلاهما عن الأدبي وعن الفني بكليّته، مع أن حياة الناس مهما تعقّدت تظلّ بسيطة واحدة. ربما يصير ملحّاً السؤال (غير النوستالجي بالمرّة، بل النقدي) عن مراحل قاد فيها الصحف مبدعون، لم يتردَّدوا في صياغة موقف في السياسة وأخلاقها ومنها من دون أن ينال ذلك من قيمتهم الأدبية. في جميع الأحوال، يظلّ هذا أفضل من إعلام «جبّار» يحكمه كبارُ التجّار.
* كاتب فلسطيني مقيم في حيفا