على الغلاف | بالنسبة إليّ، الثقافة ليست شيئاً آخر غير التحريض على التنوير والتحرير. هذان هما المشروعان اللذان يمكنني أن أفهم من خلالهما المدينة التي تطرح نفسها عاصمة للثقافة. الثقافة التي لا تملك مشروعها في تحرير الفرد من مختلف أشكال السلطات هي محض استهلاك. الثقافة التي يناهض مشروعها استبداد السلطة الدينية من جهة، ويقف جنباً إلى جنب مع استبداد السلطة السياسية، هي ثقافة عبودية أو مصالح. الثقافة التي يتغير موقفها تجاه الحرية بتغير (دين أو عقيدة أو انتماء أو عرق أو أصل) من يطالب بها، هي ثقافة كاذبة ومزيفة.
الثقافة لا تفرق بين سلطة وأخرى، ولا بين مطالب بالحرية وآخر، مهما اختلف شكل السلطة أو الفرد أو الجماعة. الحرية قيمة مطلقة وكل شيء يتبعها لا العكس. المثقف الذي يدعم الحركات المناهضة لاستبداد السلطة الدينية، ثم يقف صامتاً (أو معادياً) للحركات المناهضة لاستبداد السلطة السياسية، هو فاقد لمصداقية التنوير.
التنوير أشار إليه كانط على أنه خروج الإنسان عن حالة قصوره وعجزه، والتحرر هو جرأة اتخاذ الموقف للتخلص من هذا القصور. الشعوب العربية في ربيعها العربي أرادت الخروج من قصور عبوديتها نحو اكتمال حرياتها. أرادت أن تقود قصورها نحو الديمقراطية، أن تعيش تجربتها الديمقراطية الخاصة، وأن تكتمل بها وتتطور تدريجاً من خلالها.
الشعب البحريني، ليس خارج هذا السياق. طالما كان سباقاً، أراد أن يخرج من قصوره الخاص. أراد أن يطالب بحقوقه كشعب راق ناضج، لا كتابع ذليل. أراد أن يكون سيد نفسه، أن ينتخب حكومته بنفسه، أن يحاسب هو قصورها، أن يبتكر مؤسساته الشرعية التي تمكّنه من مواجهة قصور الاستبداد والفساد والتوزيع غير العادل لثرواته. السلطة تريد إبقاء الشعب في ذل قصوره إليها، في عبوديته المطلقة لها، في ركوعه وخضوعه واستسلامه. تريد أن لا يخرج عن عجزه أبداً، أن يكون تحت رحمتها، وتكون هي المتحكم المستأثر بكل شيء.
في مدينتي التي كنت أحلم أن أحتفي معها كعاصمة الثقافة العربية لعام 2012، صُدمت بالزلزال المكارثي الذي ارتجّ بنا منذ إعلان حالة السلامة الوطنية حتى اليوم. لا أحد يمكن أن يصدق، ما لم يكن قد عاش فعلاً ما حدث في البحرين خلال الأشهر القليلة الماضية. حلم 14 فبراير عرّى وجه هذه المدينة التي تتوج نفسها اليوم عاصمة الثقافة العربية. جعلها تخلع قناع الثقافة والتنوير والتسامح والتعدد والتعايش والحرية الذي كانت تروجه عن نفسها. وانكشف وجه ثقافتها الحقيقية، إنها ثقافة القتل، والعنف، والانتقام، والقصاص، والقمع، والتنكيل، والتعذيب، والإذلال، والتخوين، والكراهية، والسحق، والتجويع، والحرمان، والهتك، والدهس، والبلطجة، والوشايات، والتشفي، والميليشيات المسلحة، والتقسيم المجتمعي وإشعال الفتن الطائفية والمحاكم العسكرية. إنّها ثقافة تكميم الأفواه وأي صوت يطالب بخروجه عن قصوره السياسي.
في المدينة التي تتوّج نفسها اليوم عاصمة الثقافة العربية، صار من يطالب بخروج مؤسسات الدولة عن (قصور) استملاك القبيلة هو طائفي! ومن يطالب بخروج الشعب عن قصور عبودية السلطة هو خائن! من يطالب ببرلمان غير قاصر (كامل الصلاحيات) هو عميل! من يطالب بحكومة غير قاصرة (منتخبة من قبل الشعب) هو صفوي! من يطالب بدستور غير قاصر (يضعه الشعب) هو مجوسي! وصار من يقبل أن يعيش كامل قصوره وعبوديته شريفاً وطنياً!
في مدينتي التي ترفع شعار عاصمة الثقافة العربية لعام 2012، عشت أعنف صدمة ثقافية لمفاهيمي النظرية التي لطالما تغنيت بها، رأيت كيف تجعلها السلطة ــ عبر لعبتها المترهلة ــ تتكسر على أرض الواقع كأبشع ما تكون، رأيت كيف يسقط المثقفون فيها قبل البسطاء. رأيت كيف أننا بحاجة لرفع شعار تخليص المدينة من قصورها، لتكون مكاناً آمناً للحلم، قبل أن نحلم أن تكون عاصمة للثقافة.