«أحلم بالخلاص من كلّ الأقنعة التي تراكمت على سحنتي. اسمي ليس اسمي. وطني ليس وطني. مهنتي ليست مهنتي. بيئتي ليست بيئتي. لغتي ليست لغتي. حسبت بلجوئي إلى منفاي المتجمّد أنّني سأنهي سنين التهميش والعوز التي عاثت بحياتي. لم أكن لأصدّق أنّ كندا ستضاعف من تلكؤ مسيرتي. اللغة ضاعفت منفاي وأضافت قشرة جديدة على جلدي. قشرة تتصلّب مع الوقت، لتغدو قناعاً أعجز عن إزاحته». إنّها محنة عراقية بامتياز. البحث عبثاً عن هوية، وأسئلة أخرى باتت مألوفة «عراقياً»، نتلمّس إجاباتها بمرارة وضبابية، في باكورة ميثم سلمان (1970) الروائية «قشور بحجم الوطن» الصادرة أخيراً عن «دار فضاءات». يحاول الكاتب العراقي المقيم في كندا، الاهتداء إلى سحنة أصليّة للإنسان العراقي، إلى إنسانيته قبل التشويه. يحمّل بطل روايته «محمد أو حسين» هذه المهمة، ليكشف لنا أنّ ما مِنْ حدث تاريخي شهده العراق ـــــ سياسياً كان أو دينياً ـــــ إلّا أضاف قشرةً أخرى على كدسات من القشور والأقنعة، صارت تثقل كيان العراقي. «هل أنا عربي أم مسلم أم عراقي أم كندي؟ هل اسمي محمد أم حسين أم مستر كابي كما ينادونني؟» في كندا، يشعر بطل الرواية بأنّ صبغتَي الإرهاب والتخلّف باتتا الأكثر ظهوراً على سحنته، تضاف إليها «نعوت» مثل: عربي، ومسلم، ووافد، ولاجئ، يتحسّسها في نظرات اشمئزاز خاطفة، يرمقها به ابن البلد الأصلي.

لكنّ بطل الرواية أدمن بدوره لعبة الأقنعة تلك، منذ أن أجبرته الحرب على الفرار، وارتداء قناع شقيقه الأكبر حسين، مدرّس التاريخ الذي توفّي بسبب مرض عضال. أمّا قناعه الأكبر، فصار بلده العراق الذي يحمله كالهمّ الثقيل على صدره. يُدخِل سلمان القارئ إلى عالم الاحتلال الأميركي، ليسمعه أزيز الرصاص ودوي الانفجارات، وعويل النساء، واستغاثات الأطفال. من منفاه الكندي، كان البطل يراقب «الجحافل الأميركية ومعاونيها من الدول الأخرى، وهي ترج اليابسة والماء والجو، بزحفها المهول نحو الوطن». يعيش المغترب حالة امتزاج الفرح بالخوف، وهو يشهد عن بعد سقوط الطاغية، ويختبر هلع احتلال
بلاده.
«هل أنا عربي؟» هذا هو السؤال الأكثر جدليّة الذي تطرحه الرواية. سؤال يجعل من «قشور بحجم الوطن»، تختلف قليلاً عن طبيعة أغلب الروايات العراقية الصادرة بعد الاحتلال الأميركي. يكتب ميثم سلمان: «سألت أبي مرة عن أصل جدي الأول، قال: «هو عربي قحّ، جاء من جزيرة العرب». قلت: «يعني أنه غريب على أرض الرافدين!» قال: «الزمن يمحو الفوارق بين الأصلي والوافد». إشارات لا تخلو من همس عميق، يحاول أن يقول بأنّ العراق بلدٌ محتل منذ زمن طويل، وما الاحتلال الأميركي إلا حلقة من سلسلة احتلالات متراكمة، قد لا تنتهي... «هل جاء جدي فعلاً مع الفاتحين العرب؟ أم أنه من القبائل العربية القليلة الساكنة أرض الرافدين؟ أم أنه من السكان الأصليين الذين أجبروا على تغيير ديانتهم تحت حد السيف؟» حالة التشتت التي يعيشها بطل الرواية، تصيبه بالإحباط، وتلبسه شعوراً باللاجدوى، فيصرخ منتفضاً على واقع يراه مرّاً: «متى أعيش مثلما أرغبُ ولو ليوم واحد؟» وما ثورته تلك إلا إعلان بالانتحار، إذ يعدّ كأساً من السمّ، حين يختار توديع اليقظة القاسية.