في باكورتها الروائية «بوركيني _ اعترافات محجّبة» (منشورات ضفاف _ الاختلاف)، تقتحم مايا الحاج السرد من ممرّ الجسد الذي شغل حيّزاً واسعاً في الأدب. لكنّ الكاتبة تُقدمه في صورة قلّما عرفناها، متخذة منه بؤرة سردية تنطلق منها وتعود إليها بدائرية متقنة، فتصوّره مكشوفاً أنثوياً جذاباً، ومحجباً «مُكفنّاً» ممحوّاً. البطلة رسامة متحررة، لكنّ انفتاحها لم ينزع خوفاً داخلها، فلجأت إلى الحجاب. وبعدما اعتقدت أنه منحها الطمأنينة، وفرضها كإنسانة لا كأنثى، تكتشف أنّها تفتقد جسدها الملفوف بالأقمشة، ما يدفعها إلى القلق والسؤال عن جسدها وأنوثتها، «ما هي قيمة المرأة من دون جسدها؟». تتولّد أزمة الرسّامة خلال جلسة مع حبيبها قبل افتتاح معرضها، وتحديداً حين تظهر حبيبته السابقة الجميلة بملابسها المثيرة. هذا اللقاء كان كافياً لأن يوعي قلقاً يتطوّر على مدار الرواية. فالبطلة التي اعتقدت أنّها المرأة المثالية، تصبح كائناً ممحوّاً في مرآة ذاتها بعد زجّ نفسها في مقارنة مع جسد غريمتها. لم تغب فلسفة الجسد عن صفحات الرواية، فالراوية رسامة عالمة بالأجساد تُبدع رسم العري الأنثوي، وتسمو بالجسد جاعلة إيّاه الحقيقة الوحيدة.
هنا، تُخلّص الجسد من مفاهيم التصقت به جاعلة إياه رمزاً للخطيئة، لتحوّله إلى بوابة نحو الإنسانية، باعتباره «قبّة الروح وليس تابوتها». كذلك تختار في رسماتها البحث عن الحقيقة من خلال أجساد بطلاتها، فترسم بطونهنّ كأنّ الحقيقة تكمن داخلها. وبين هذه الفلسفة، وبين حجاب اختارته بمحض إرادتها، تعيش صراعاً يجعلها تحسد غيرها، فـ «الروح نفسها غالباً ما تكون عاجزة عن منح المرأة الثقة التي يمنحها إياها الجسد». من خلال هذه الثيمة، تسلّط الكاتبة الضوء على مسائل بحاجة إلى المعالجة، أهمها القضايا النفسية التي يكبتها المجتمع، ويصبح التخلص منها صعباً وبحاجة إلى بعض الوسائل مثل الفن. وهذا ما فعلته البطلة حين اتخذت من الرسم منبراً تُعلي عبره الصوت، وراحت تنشر لوحاتها تعويضاً عن معاناة جسدها المدثّر. تتخبط البطلة في التناقضات، وفي انتمائها الذي كان نتيجة ثورة ذاتية جعلتها مختلفة عن محيطها. ولمّا قرّرت إنهاء صراعها، وجدت نفسها أسيرة حجاب لم تستطع التخلّص منه لأنّه أضحى جزءاً من روحها، فتمسّكت به كأنها تتمسّك بأوجاعها، لتتحوّل الى مازوشية تنتشي بعذابها: «في أحيان كثيرة، أحس أنني غدوت استاذة في إيذاء نفسي». هذا القلق يستحيل شكّاً في حبيبها الذي لا يكتفي بجسدها المحجّب، فيلتهم الأجساد الجميلة. في الرواية، توجّه الحاج رؤيتها نحو الدين أيضاً، حيث يصبح الحجاب هو النقطة التي تطلق منها مواقف تحليلية وتأملية جريئة. تعلن البطلة مواقفها من الدين، والحرية، والأنوثة، والذكورة عبر رؤيتها إلى جسدها، فترى الإيمان «يتأتى من البحث وليس من الخضوع». استطاعت الكاتبة بناء عالم روائي ركيزته الأساسية هي الراوية، ما جعلنا أمام عمل من روايات «الشخصية»، إذ غيّب المونولوج الكثير من الشخصيات. أما الفنيّة فتكمن في استخدام أبطال بلا أسماء لتشير إلى أن الفرد المتمثل في النص هو فعل، فيما جاء الزمن مكثفاً، إذ لم يستغرق السرد سوى أيام راوحت بين أمكنة محصورة في المحترف والمقهى والمعرض والغرفة، وهذا ما أسهم في تدفق الاسترجاعات الزمنية التي أضاءت على جوانب من حياة الشخصية وكشفت أزمتها. يبقى السؤال هنا عما إذا كان باستطاعة البطلة في النص أن تتحرر مما أسقطته على نفسها مادياً كالحجاب، فهل حبها في معاكسة التيار سيمكّنها من التحرر ممن أسقطته على نفسها زوجاً في النهاية؟ نقول زوجاً وليس حبيباً؟ إذ تتوغل معه رغم حذرها منه في ظلمة الحديقة.