هذه المرّة «تجمّع العشّاق» أمام جامع الحسين. الجنازة البسيطة التي خرجت من المسجد القاهري، صوّرتها الكاميرات من كل الزوايا الممكنة. من يقول إن في هذا الصندوق الخشبي المرفوع على الأكف وسط آهات وهتافات خافتة، أحد أكبر شعراء مصر والعرب في القرن العشرين؟ وريث عبدالله النديم وبيرم التونسي، وأحد هؤلاء الذين أعطوا العامية المصرية فصاحتها إلى جانب فؤاد حدّاد وصلاح جاهين والآخرين. أحمد فؤاد نجم تكلّم بلسان الناس، وغنّى أوجاعهم، حمل هموم الفقراء وغضبهم وأحلامهم وعزيمتهم وفطرتهم وحسّهم الساخر. «شاعر الغلابى» الذي نبكيه الآن بصمت، شكّل وجدان أجيال، وأرّق مضاجع عظماء، بكلماته العارية، ولسانه السليط، ونقمته الهادرة، وضحكاته المجلجلة. قصائده عبرت العهود والمراحل، من «عبد الجبار» إلى «شحّاتة المعسّل»... من نكسة الـ 67 و«كامب دايفد»، إلى ثورة ٢٥ يناير ثم 30 يونيو. وكان قبل أربعة أيام فقط يبشّر من عمان بـ«ثورة ثالثة». لنقل إنها كانت وصيته. «كلمتين يا مصر يمكن/ هم آخر كلمتين». «الفاجومي» الذي غيّرت رواية مكسيم غوركي الشهيرة حياته، ووضعه عمّال المطابع الشيوعيون على الصراط المستقيم، كانت له أمس جنازة تشبهه في هذه الأزمنة القلقة، المتأرجحة بين خيبة عقيمة وأمل عظيم. جنازة بلا فخامة رسميّة. ولماذا يحتفي الـ«ديابة» بالشاعر الصعلوك الذي كرّس عمره لمقارعتهم وفضحهم وتعريتهم والسخرية منهم، وبقي يتحدّاهم حتّى الرمق الأخير بأبيات جلفة كالمبرد، حادة كالسكين، وفي الوقت نفسه تنضح بلاغة ورقّة وعذوبة؟
84 عاماً أمضى منها 18 في السجن لم تكن ذلك العمر الكبير. لكن نجم شرب الكأس حتّى الثمالة، مسرفاً في التمرّد والعشق وملذّات الدنيا. قبل أشهر صرّح بأنّه لا يزال يشرب ويدخن ويحب ويقرض الشعر مثل ابن الخامسة والعشرين. في الحقيقة كان تمرّده هو عنوان شبابه الدائم، وانتمائه لطبقته وشعبه، وراديكاليّته في مواجهة اسرائيل والاستعمار، وعدائه الشرس للمتأسلمين، وجرأته على مقارعة السلطة، وانفتاحه على الشباب الذين كان يسرّه أن يقلّدوا قصائده وينسبوها إليه. إنّه أحد هؤلاء الخوارج الذين ماتوا كما عاشوا، منسجمين مع أنفسهم. كان ينبغي أن يسافر إلى أمستردام لاستلام «جائزة الأمير كلاوس» بعد أسبوع، لكنّه غيّر رأيه فجأة. فضّل أن يذهب ليتصالح مع رفيق دربه الشيخ إمام عيسى، ويجلس مجدّداً إلى جانبه في الصورة بالأبيض والأسود، تماماً كما في باريس 1984 خلال حفلة «الأماندييه» التي سبقت القطيعة. ونحن سنبقى نستعير صوته لنشتم الطاغية، ونبصق بوجه الظالم، وندافع عن المقهورين في الأرض، ونطلق الرصاص على المحتلّ.

يمكنكم متابعة بيار أبي صعب عبر تويتر | PierreABISAAB@