في أكثر من محطة، تتوقف النصوص الجارفة كما لو أنّها قطار عند لحظات مفصليّة، ما يشعر قارئ «شارع اللصوص» (الجمل ـــ ترجمة ماري طوق) بأنه يقرأ عما بحث عنه خلف ستائر «الربيع العربي». سيقرأ عن أشياء يسمع عنها، ولا يعرف كيفية حدوثها. وغالب الظن أنّ ذلك قد يدفعه إلى الابتسام بشراهة، والرغبة بالتهام النصوص المسبوغة بحرفة، كأنه يرمي بعينه إلى مشهد واضح يتنامى خلف نافذة قطار.
سيصادفه هذا الشعور، مراراً، إذا وقع على آيات قرآنية ـــ تدل على جهد الكاتب في معرفة الواقع العربي ـــ أو تقاليد عربيّة، لعبت دوراً حاسماً في تشكيل الحالة الجماهيريّة التي مدت «الربيع العربي» بزخم خاله الجميع سيقود إلى خلاص محتوم، تماماً كما اعتقد «الأخضر»، بطل الرواية، في كل محطة من أسفاره على طريقة ابن بطوطة.
في «شارع اللصوص» الفائزة في الدورة الأولى من جائزة «غونكور ـــ خيار الشرق»، يجيد الكاتب الفرنسي الملمّ بالعربيّة، ربط طنجة بدمشق، لا عبر إيغاله في أجزاء حميمية من مكونات الثورات العربية الحقيقية فحسب، بل عبر استشهاده بنزار قباني أيضاً على لسان «الأخضر»، الشاب المغربي الذي يعرف الشاعر السوري ويروقه، بينما يبدو محمد شكري بالنسبة إليه، ثقافة متأخرة، أقرب إلى الترف منها إلى أن تصير سائدة. في أي حال، ينبغي التذكير بأنّ مجهود إينار في هذا الإطار هو مجهود متراكم. للمناسبة، هذه ليست روايته الأولى عن العالم العربي. قدّم إينار الذي عاش في بيروت وأحبّها، قبل أن يتفرغ لتدريس العربية في برشلونة، «جودة الرمي» (2003)، التي تناول فيها شذرات من سيرة قناص خلال الحرب الأهلية اللبنانية، إضافة إلى أعمال أخرى يُفترض أن تضعه في مقام الكتّاب الذين يرد ذكرهم كثيراً ككتّاب لا كمستشرقين فحسب. والحديث هنا عن رواية «صعود نهر أورينوك» (2005) التي تلعب جولييت بينوش دوراً رئيسياً في الفيلم المقتبس عنها «قلب مفتوح». غير أنّ «خيار الشرق» هي التي سلطّت الضوء على إينار عربياً. وربما، من الواجب القول إن رواية إينار، ولو بدت من صلب هذا المكان والزمان، تصلح لتكوين صورة أوسع لجزء يسير من المجتمع المغربي السفلي تحديداً، على غرار «الخبز الحافي» لمحمد شكري الذي لا تخفي الرواية إعجاب كاتبها به. ورغم براعة شكري الموصوفة في نحته طنجة، ينجح إينار في إذابة فوارق الهويّة بينه وبين الكاتب المغربي. يتكئ على الراهن في الأحداث، ليلج العالم العربي كاملاً، انطلاقاً من السواحل المغربية المعدمة، وصولاً إلى مواقف لا يسجّلها بوضوح، من ترنّح حركة الاحتجاج في برشلونة، مفسّراً أوجه الشبه العابرة بينها وبين الاعتراضات العربية.
وإذا كانت «الخبز الحافي» هي العالم السفلي لطنجة، فإنّ «شارع اللصوص» هي العالم السفلي للربيع العربي. تنساب الأحداث من طنجة إلى العالم العربي بسلاسة، فتمر بتفجيرات مراكش 2011، وسقوط القذافي الذي لطالما بدا أسطورياً، كما تعرّج على تونس الحزينة بعد الثورة. هذه حرفة لا يتقنها إلا العارف، فهو ينطلق من المغرب المطلة على إسبانيا، «بوابة أوروبا» كما يصفها، إلى العالم العربي المتأرجح بين سلسلة أوهام، تبدأ بالربيع العربي، ولا تنتهي بحلم الصعود إلى أحد مراكب العدم الذاهبة إلى أوروبا، من دون أن يكون انتقالاً خفيفاً على حساب التفاصيل. ربما تكون «جوديت»، صديقة «الأخضر» الإسبانيّة شاهداً في الرواية أكثر من كونها مشاركاً في تركيبتها كمريم، قريبته، ضحيّة «الشرف». وهذا ما يريد إينار قوله عن الأوروبيين الغارقين في مشاكلهم الاقتصادية، ما جعلهم متفرجين على النيران المضرمة في العالم العربي. حتى «الأخضر» نفسه كان متفرجاً، «فالجميع كان متأكداً من فوز الإخوان في مصر» كما يقول الشيخ «الطيب» الذي تلقّف المشرد من الطريق، وأجبره لاحقاً على ضرب الكُتبي، صاحب الفضل عليه في ثقافته، والشعور بذنب التورط في محاربة الذات.
يترك إينار لقارئه حريّة الاستنتاج بأنّ العالم العربي شارع كبير، تتأخر رغبات أهله عن المتاح، وأن الإسلاميّين هم لصوص هذا الشارع. والأهم أنّ إينار يبقى محايداً، تاركاً المسافة الضرورية بين النصوص والقارئ، فلا يلزمه بالصدام مع الثورات العربيّة، بينما يعود الفضل الكبير في سلاسة النص العربي لماري طوق. ليس سهلاً إطلاقاً ترجمة رواية إلى العربية، لكاتب غارق فيها أصلاً، ومنح القارئ ذلك الشعور بالدهشة، حين يصطدم بحقل معجمي متين، تكاد اللغة فيه تكون براقة أكثر من الأحداث نفسها. الأحداث التي تدور في «اندرغراوند» الربيع العربي!

لقاء مع ماتياس إينار: 16:00 مساء 5 ت2 (نوفمبر) ــ SALLE A