تسري مجريات الأحداث في بغداد، كأنّ ثمّة مسارين يتصارعين فيها: حياة تقارع الموت في صورة ليست جديدة على المشهد، لكنّها تعود بعدما اعتقدنا أنّنا في طور مغادرتها بالوصول إلى ظروف أقلّ قساوة وأكثر رأفة بالناس. يحدث أن يحيي الموسيقار نصير شمة حفلة في بغداد، وإذا بالحماسة تدفع المئات للذهاب مساءً إلى المسرح الوطني للقاء مبدعهم الآتي إليهم. في التوقيت نفسه، تنفجر في مدينة الصدر سيارتان مفخختان، فيذهب ضحيتهما 300 شهيد وجريح. شرق بغداد يضجّ بالدماء والعويل، ووسطها جمهور ينتصر لحياته، وهو لم يسمع بعد بهول ما حصل، فتراه مبتهجاً بمقطوعات «لو كان لي جناح»، و«بين النخيل». وقبل الختام بدقائق، يهمس شاب في أذن صديقه: «لنخرج بسرعة الوضع مكهرب»، هكذا تبدأ الحفلة بفرح غامر وتنتهي برهبة مستديمة من استهداف تجمّع مماثل. ما هي إلا أيّام وتجد عند أحد التقاطعات المؤدّية إلى شارع أبي نواس لافتة تدعو إلى فعاليّة «أنا عراقيّ أنا أقرأ». تستعد للذهاب والمشاركة في كرنفال القراءة الجماعيّة قرب تمثال شهريار وشهرزاد. وأنت في سيّارة الأجرة، يأخذك سائقها إلى قصّة أخرى بعيدة عن العالم الذي تريد الذهاب إليه، فيقول إنّ «الجثث مجهولة الهويّة عادت لتظهر من جديد في المدينة». حالك حال الهارب من مأتم متنقل، تمضي للالتحاق بجموع الشابات والشباب، فالفعاليّة أكثر من مناسبة رمزيّة لتحفيز القراءة وتحويلها إلى ممارسة اجتماعيّة في فضاء مفتوح.

تختتم ذلك المساء بالانتباه إلى فتاة من مبادرة «أنا عراقيّ أنا أقرأ»، تذكر لمراسل فضائيّة يحاورها «نحن نحاول البحث عن مستقبل آخر والتغلّب على الواقع الصعب»، تصبح عبارتها زادك لمواصلة أيّامك في هذه المدينة القاسية والمدمنة غسلَ أرصفتها من بقايا أشلاء الضحايا ودمائهم.
ليلة جديدة تغلق فيها التلفزيون؛ مبتعداً عن نشرات الأخبار وحوارات الساسة العقيمة واللامسؤولة، وتكون الوجهة تصفّحاً سريعاً لصفحتك في الفايسبوك، ومن بين التعليقات و«البوستات» مَن كتب أنّه «كان محظوظاً لأنّه مرّ قبل دقائق من حدوث الانفجار في حيّه». وسط هذه الكتابات، تقرأ إعلاناً يكاد يكون مختلفاً تماماً: على صفحته، يعلن القاص لؤي حمزة عباس (الصورة) إطلاق دار «ورّاقون» في مدينته البصرة، لتكون ولادة من رحم الموت، وخصوصاً أنّ عباس نجا قبل أشهر من تفجير سيّارة مفخخة. هكذا هي المعادلة في العراق اليوم. حياة تتجاور مع الموت.