في مجموعته الجديدة «الخريف، هنا، ساحرٌ وكبير» (الصادرة بالعربيّة والإيطاليّة عن «دار إل سيرنته» – 2013)، يواصل جولان حاجي (1977) مشروعه الشعري الذي بدأ منذ باكورته «نادى في الظّلمات» (2006). جولان صاحب تجربةٍ خاصّة في الشعر السوري، كانت اللغة فيها المكون الأساسي، مبتعداً عن التقييدات التي التصقت بمعظم مجايليه الذين انحازوا إلى «القصيدة اليومية» ورموزها. وبرغم «الاتّهامات» الجاهزة التي حاول فيها البعض تأطير شعر جولان (سليم بركات كمرجعية شعرية كردية من جهة، أو التأثر بالشعر الأوروبي والأميركي بحكم اطّلاع الشاعر عليهما في ترجماته المتفرّقة المنشورة)، إلا أنّ المتتبّع لهذه التجربة يستطيع التقاط خصوصيّتها التي تنأى عن التصنيفات السائدة.
منذ البداية، استندت تجربة جولان الشعرية الى تجسير الهوة بين الشفهي والكتابي. ثمّة ظلالٌ للترجمة في شعره تتبدّى واضحةً في معظم القصائد؛ ليست الترجمة الاعتيادية بحرفيّتها، بل معناها الضمني الذي كان يشير إليه الشاعر في حواراتٍ عديدة (كلّ كتابة هي ترجمة). الترجمة كعملية نقل بدرجات متعدّدة: نقل الكلمات من المخيّلة/ العقل إلى الورق، نقل المفردات وتحويلها من لغةٍ إلى لغة، ونقل القصيدة/ الحياة من عالمٍ واقعيّ إلى عالم مواز آخر يهرب ويلتجئ إليه، تكون فيه «كاف» التشبيه هي الأداة المحوريّة في القصيدة.
عبر هذا النّقل، تتحرّك قصيدة جولان مبتعدةً عن التقييدات وضيق «اليوميّ» والهويّة واللغة، إلى رحابة فضاء القصيدة. ليس ثمة مكان للثبات في قصيدة حاجي؛ الواقع دوماً مؤقّت، ولا بدّ من ارتحال (مادي أو مجازي) لتكتمل القصيدة. الخوف (السّمة الوحيدة الثابتة في قصائد هذه المجموعة) وعدم الاستقرار هما أداتا الشاعر في التعبير عن ضيق المكان، أيّ مكان، وهو ما يجعل شعر جولان، عموماً، ملغّماً دوماً بالدلالات التي تُربك المتلقّي. وهنا تكمن صعوبة ولذّة هذه القصائد: «لا أخاف أن لا أُفهَم بل أخاف أن لا أُحَبّ». هذا الاضطراب الشخصي والشعري يتبدّى بشكل أكثر وضوحاً في الترجمة الإنكليزيّة لشعر جولان حاجي الذي يشارك معظم الأحيان في ترجمة هذه القصائد بصحبة أصدقاء آخرين. نجد القصائد أكثر «استقراراً»، حيث يُعيد الشاعر كتابة القصائد، ورسم عالمها، وضبط اتجاه بوصلتها.
يشترك جولان مع شعراء «القصيدة اليوميّة» في نقطة الانطلاق، أي عالم الظّلال والأصداء والهامش، لكنّه يفترق عنهم في التأكيد على قضيّة «الأَجْنَبَة» (لو استعرنا مصطلح آلان باديو) في القصيدة. المفردات لا تكتفي بدلالاتها المباشرة، بل تكتمل بظلال معناها، ومرورها بهذه المرحلة «الأجنبيّة» المؤقّتة التي تكون حدّاً فاصلاً بين العالم الواقعي والعالم الشعري، وتتمثّل دوماً بالمرآة (أداة شعريّة دائمة الحضور في قصائد هذه المجموعة والمجموعات السابقة). المرآة كحاجزٍ بين دلالتين وحالتين تفضي إحداهما إلى الأخرى بالضرورة في معادلةٍ دائمة، يكون أحد طرفيها الخوف: «كعدوَّيْن قديمين/ ستحدّق عيناك في عينيك».
يتماهى جولان مع شخوص قصائده لا ليحاول كسر رتابة القصيدة فحسب، بل لرسم ملامح مكان دائم ما بعيداً عن الأمكنة المؤقّتة التي تؤرّق الشّاعر وقصيدته. تكتسب هذه الشّخوص صفات شاعرها (خائفة، متردّدة، غير راضية) من دون أن تنسى تكريس حياةٍ مستقلّة لها بعيداً عن عزلة شاعرها وصقيع نهاياته.
ثمّة حضورٌ شفيفٌ للطبيعة في قصائد المجموعة، لكنّه كأي عنصرٍ آخر في القصائد، يرتدي ثوباً شعرياً جديداً بمعانٍ مُبتكرَة وصور جديدة. ولا بدّ من التأكيد على أهميّة هذا العنصر في شعر جولان حاجي؛ أي الابتكاريّة في خلق الصّور والعوالم المتعدّدة في جسد القصائد، مع وجود علاماتٍ ثابتةٍ دوماً: فالدّم صدأ، والشفتان مشقّقتان، والأشياء توّاقةٌ دوماً للعودة إلى أصلها.
تشترك مجموعة «الخريف، هنا، ساحرٌ وكبير» مع مجموعات جولان السابقة في هذه العلامات الشعرية الثابتة، لكنّها تفترق عنها بكونها أكثر كمالاً لناحية الصّورة والأفق، عدا كون قصائدها أكثر استقلاليّة، بمعنى خصوصيّة كلّ قصيدة بحدّ ذاتها، الأمر الذي كان أقلّ وضوحاً في معظم قصائد مجموعتَيْ «نادى في الظّلمات» (2006)، و«ثمّة من يراك وحشاً» (2008). أخيراً، ليست هذه المجموعة التجربة الأولى لحاجي في تجاور القصيدة ذاتها بلغتين مختلفتين، إذ سبقتها مجموعة «اخترتُ أن أسمع» (2011)، عدا قصائد مترجَمة متفرّقة أخرى بعددٍ من اللغات في منابر عديدة مثل «جدليّة»، «وولف»، و«كلمات بلا حدود».