كان يُفترض أن تُقام الدورة الأولى من «معرض الفن السوري المعاصر» في دمشق، لكن يبدو أن الفن أيضاً كُتب له أن يكون نازحاً وهارباً من جحيم الأوضاع المتفجرة هناك. لا يستطيع الزائر تجاهل هذا الانطباع وهو يتجول بين أعمال 50 فناناً سورياً يشاركون في المعرض الذي تحتضنه غاليري Artheum في منطقة الكرنتينا. يترجم المعرض الخطوط العريضة لمسارات المحترف السوري خلال السنوات الأخيرة، التي شهدت انفتاحاً ملحوظاً على التجريب، مع تساؤلات بنيوية جريئة حول ثبات هوية هذا المحترف، وضرورة خلق صلات مبتكرة وحديثة بينها وبين الممارسات الفنية السائدة حالياً في العالم. بدأ التجريب ببطء، وظل يدور على حافات الهوية التي رسختها تجارب الرواد في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وراكمتها تجارب طليعية ظهرت في السبعيينيات وما بعدها. إلا أنّ مناخات وانطباعات تلك الهوية واظبت على الحضور بكيفيات مختلفة في التجارب الجديدة.
صحيح أن الشبان خرقوا توصيفات وبنوداً أساسية في تجارب أسلافهم، لكنّ شيئاً ما يمكن أن نسميه التكوين السوري أبقى حساسيات الشبان على صلة بماضيهم، وأوقف مجازفاتهم التشكيلية عند حدود معينة لا تهدد بقطيعة كاملة ونهائية. كأن رسوخ هوية المحترف السوري جعل التجريب يحدث داخل الهوية ذاتها، أو في جوارها ومحيطها. بهذا الانطباع العام والأوّلي والسريع، يمكن اختصار اللحظة الراهنة في اللوحات والمنحوتات وأعمال الفيديو والتجهيز والفوتوغراف المشاركة في المعرض.
ضآلة حضور الفيديو والتجهيز هي إشارة إضافية إلى التجريب المحدود الذي يتناهى إلينا من المعرض، الذي تتسيّده ممارسات واقعية وتشخيصية وتعبيرية تتكرر بأمزجة مختلفة، إلا أنها تثبت على نحو غير مباشر حدّة الموضوعات والأفكار التي تشغل مساحات الأعمال المشاركة. هناك تجارب منسجمة أكثر مع أمزجة أصحابها، كما هو الحال في رسوم ومنحوتات عاصم الباشا، وحروفيات أحمد معلا وحشوده البشرية، والرؤوس المنحوتة لمصطفى علي، والأسلبة الشاعرية في لوحات حمود شنتوت، وتشخيصات إدوار شهدا، وجصّيات ومجسمات آمال مريود. لا يحدث التجريب في ممارسات هؤلاء الفنانين بالنسبة ذاتها، إلا أن خلوّ هذا التجريب من طفرات مفاجئة يحوّله إلى تجريب مدروس وآمن أحياناً. توصيفٌ يتخلخل قليلاً في التجارب التي جاءت بعد هذه الأسماء، إلا أنه يظل حاضراً بنسب متفاوتة أيضاً، كما هو الحال في منحوتات فادي يازجي، والرسوم الرقمية لرشوان عبد لكي، ولوحات وليد نظامي. القصد أن ّالتجريب تزايد من من جيل إلى آخر، أو لنقل من مزاج إلى آخر، لكن هوية المحترف الذي تنتمي إليه هذه الأعمال لم تتوقف عن لجم هذا التجريب.
ينبغي أن نوضح أن هذا الاستنتاج ليس حكماً سلبياً بقدر ما هو وصف نقدي للتقاليد والقواعد الصارمة التي نشأت هذه الهوية على أساسها. هناك تجارب أخرى لعبت على تجريب من نوع آخر، كما فعل ياسر صافي في رسومه الطفولية ذات الركاكة المتعمدة، وكما تفعل هبة عقاد في لوحاته المنجزة بالأقمشة والخيوط، وفي لوحات أنس حمصي ويوسف يوسف، وفي منحوتات علاء أبو شاهين ومحمد عمران. المعرض الذي شاركت فيه 4 غاليريات سورية (سامر قُزح/ تجليات/ مصطفى علي/ آرت ريزدانس عاليه)، إضافة إلى مشاركات فردية مستقلة، منظم أساساً على فكرة الترابية الزمنية من خلال تقسيم المشاركين إلى أسماء مكرسة وأخرى ناشئة. كأن المطلوب أن يتتبع المتلقي الخيط الخفي للتجريب والتطور بحسب التحقيب الزمني، وأن يكون ذلك اقتراحاً لتراكم صورة المشهد التشكيلي المعاصر في سوريا. صورة غير مكتملة في غياب أسماء كثيرة، لكنها مقبولة ضمن الصعوبات اللوجستية الهائلة التي يمكن أن تحكم إقامة حدث كبير من هذا النوع في ظل اليوميات السورية المحكومة بالحرب والدمار والنزوح.

يمكنكم متابعة حسين بن حمزة عبر تويتر | @hbinhamza

«معرض الفن السوري المعاصر»: حتى مساء الغد ـــ غاليري Artheum (الكرنتينا ـ بيروت) ــ للاستعلام: 78/940041



نادي المقتنين الكبار

بدأت فكرة إقامة هذا المعرض في نهاية عام 2010، على أن تنطلق دورته الأولى من دمشق في آذار (مارس) 2012، إلا أن تأجيله كان طبيعياً في ظل الظروف التي تعيشها سوريا. ولأن الأزمة تبدو بلا أفق واضح، تقرر نقل الحدث إلى بيروت «لأنها الأقرب، ولأن غاليرياتها استقبلت تجارب سورية عديدة في العامين الأخيرين»، كما يقول مدير المعرض سامر قزح. يبقى أن نذكر أنّ «معرض الفن السوري المعاصر» نفسه تضمن عرضاً أو نوعاً من المزاد الخاص تحت عنوان «نادي المقتنين الكبار»، وعُرضت فيه لوحات لعدد من رواد المحترف السوري مثل: لؤي كيالي، فاتح المدرس، ميشيل كرشة، محمود حماد، نذير نبعة، حيث جرت صفقات بيع وشراء بين مقتني هذه الأعمال.