يفتتح خالد خليفة روايته الجديدة «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» (دار العين _ القاهرة) بموتين: موت الرئيس (القائد الخالد) وموت الأم، مستخدماً صوت إحدى الشخصيات ليحكي سيرة عائلة تسكن حي «ميدان أكبس» في حلب، وتوريث السلطة عام 2000. يسترسل الروائي السوري في الحديث عن «حزب البعث» وانتصاره على «الإخوان المسلمين» في الثمانينيات، والتحول الذي مرّ به المجتمع بعد سيطرة «الطائفة» على الحكم.
هنا، تبرز التحولات التي أصابت سكان المدن وعلاقتهم مع العسكر الذين «يكممون الأفواه بقانون الطوارئ والمحاكم الاستثنائية ويغيرون الدستور ويصادرون في مادته الثامنة كل السلطات التي تنص على أنّ حزب البعث هو الحزب القائد للدولة والمجتمع».
تطرح الرواية مفهوم «الحياة الموازية» حيث تعيش كل شخصية حياتين بحسب الراوي، إحداهما سرية وأخرى علنية في ظل الحزب. تتمثّل الحياة الأولى في الذكريات، والمغامرات السرية التي تخوضها الشخصيات الغيرية والمثلية كما في حالة نزار. أما الحياة الثانية العلنية، فتشبه حياة القطيع في ظل الحزب الحاكم لناحية ترديد الشعارات والهتافات والانضمام إلى «فرقة المظليات» كسوسن التي تصبح عشيقة أحد الضباط قبل أن ترتد إلى الحياة الدينية التقليدية.
تتضمن الرواية بعض الإشارات إلى أحداث سياسية معاصرة، أهمها انضمام عازف الكمان رشيد إلى صفوف المجاهدين في حرب العراق والمشاركة في معركة «مطار بغداد» حيث اعتقله الأميركيون وأطلقوا سراحه بعد سنوات. تتداخل أصوات الشخصيات لتروي أحداثاً من الماضي والحاضر كما في رواية خليفة «مديح الكراهية»، فنراه يستثير ما هو مخفي ومسكوت عنه في تاريخ سوريا المعاصر بصورة أوضح وأكثر فجاجة هذه المرة. نتتبع أيضاً مغامرات النساء الجنسية التي تعادل حالة الكبت الذي تعانيه المرأة.
تعيش كل شخصية في الرواية مأساتها، إلى جانب إصابتها بمرض العار ومحاولة دفع ضريبته دائماً. سوسن مثلاً تعيد رتق بكارتها كرد فعل على كتابتها التقارير ضد زميلاتها في الجامعة، وجان الآتي من سويسرا يحبس أنفاسه في المنزل ليرعى أمه العمياء التي تنتظر الموت. لا بد لأحد من أن يشهد العار الذي تعيشه المدينة، فالحياة في ظلّ الحزب تمسخ الشخصيات. أما الحياة السرية، فتستنزف وجودها وتودي بهذه الشخصيات إلى التشوه النفسي والجسدي أحياناً، كسارة التي تعرضت للضرب والتعرية من ثيابها في العلن، والراوي الذي تورّط في العار من دون إرادته حين حكم عليه أن يولد يوم انقلاب «حزب البعث».
تملك الشخصيات ملامح الشغف التي تستدعي الجنس وتمارسه كأنّه خلاص لها ووسيلة للتحرر من السلطة. لكن هذه التجارب تعكس فانتازمات جنسية كجان الذي يحلم بتقبيل حذاء صديقته الأحمر. وفي تجربة إباحية، تشارك سوسن الجنس مع زوجين، كأنّ العري المرافق للجنس تحلَّل مما هو مفروض من لباس وكلام وشعارات، لكنّ أي صرخة ستنتهي بالاعتقال أو الاختفاء أو الموت. صرخة أخيرة ترسلها شخصية هامشية في الرواية بأنّ «الموت حرقاً أشرف من انتظار الموت جوعاً». ينتحر صاحبها مع زوجته وأطفاله الأربعة مردداً عبارة «ألا توجد سكاكين في مطابخ هذه المدينة».
يستطرد خليفة في سرد بعض حيوات الشخصيات، فيما يختصر أخرى، ليعيد ذكرها عبر انطباعات الشخصيات عنها. من خلال الراعي الكردي الهائم بين الحدود التركية والسورية، يشير خليفة إلى وضع الأكراد السياسي في تلك المرحلة من تاريخ سوريا، ويلفت أيضاً إلى فساد الضباط وعلاقتهم مع التجار والرشى المتبادلة للإفراج عن المعتقلين أو تمزيق التقارير الأمنية. تختصر هذه الشخصيات الهامشية والحبكات الفرعية شريحة اجتماعية معينة، يمنح الراوي من خلالها تكثيفاً دلالياً لسوريا مثل حالات التحرش الجنسي في السجون والشارع واحتيال شيوخ الدين طمعاً بالمال والجنس.
هشاشة العلاقات التي تحكم طبيعة المجتمع تعكس هوس الشخصيات ضمن الرواية في الحفاظ على المظاهر الخارجية والتستر على ما هو «معيب» حيث يتوقف الزمن ويستنزف وجودها. هنا يخرج جان من روتينه إلى روتين آخر وهو ترجمة روايات بلزاك في البداية ثم مضاجعة بائعات الهوى.
يشير خالد خليفة إلى التفكير الطائفي الذي يدخل ضمن تفاصيل الحياة اليومية ويدمر علاقات الزواج والحب، معيداً صياغة المجتمع وفق رؤية أقلوية تستبد بالسلطة وتنعكس على المجتمع لتفكيك بنيته. كل هذا يُقرأ في جمل قصيرة تعكس تصاعد الحدث لترسمه بصورة أقرب إلى انطباعات سريعة تساعد في تكوين الصورة الكلية ثم تطول حين يسترسل الروائي المعارض في الحديث عن السياسة أو عن تفاصيل المكان بصوت الراوي أو صوت الشخصية. تبتعد لغة خليفة البسيطة عن التعقيد وتنتهي بعض الفقرات بحكم وتعميمات يطلقها الراوي. هناك بعض الإشارات السوريالية الواضحة، كالإشارة إلى الشاعر السوريالي الحلبي أورخان شكيب ميسر، وأخرى خفية تتمثل في الهلوسات التي تعيشها الشخصيات وانسياقها وراء أحلام اليقظة والتخيلات التي تتناقض مع الواقع. الخدر يسيطر على الجميع، فيما يعيش كل منهم في عالمه الخاص، لتتغير العلاقات مع الواقع المحيط كأنه حالة عابرة أو حلم طويل يتحول فيه الخيالي إلى حقيقي. أما الواقع، فهو غيبوبة لا بد من الاستيقاظ منها. يمكن أن نعتبر هنا أنّ والدة جان العمياء معادلة لحالة الاحتضار التي مرت بها سوريا، فقد توقف الزمن عندها في لحظة ما ولا تزال تعيش أمجادها «عمياء».
لكن الأمر ينتهي بها، باكتشاف الحقيقة والتسليم بالعمى وانتظار الموت بوصفه حتمياً. يختار الجميع التناسي لدرجة إنكار الذات. تخترع سوسن قصة جديدة لحياتها عند زيارة مسقط رأسها للمرة الثانية وينتحل رشيد ديانة وشخصية جديدتين للفرار من الأسر.
رواية خالد خليفة ممنوعة في سوريا كحال روايته السابقة «مديح الكراهية» التي نشرت قبل خمسة أعوام، وقد اختار مصر هذه المرة لنشرها. اللافت أنّ خليفة لم يشر إلى الأحداث السياسية الراهنة في سوريا، رغم أنّه رفض مغادرة البلاد، وتعرّض للضرب مرة في دمشق. هذه الأحداث لم تظهر في الرواية، بل بقيت حلب مسقط رأس الكاتب محور الأحداث إلى جانب بيروت وبغداد.