تربكني هذه الهشاشة في تفسير ما يحدث على الأرض، وتفسير كيف انزلقنا إلى هذا المستنقع، أو إلى سجادة الظلام، كما لو أننا ذاهبون في نزهة، نزهة «الموت ولا المذلّة»، ذلك الهتاف الذي تلاشى بتأثير الرصاص وازدياد القتلى في ساحات التظاهرات. الموت، أرجوحة الرغبات، والدراجة الهوائية التي انحدرت إلى الهاوية بسبب عَجلتها المثقوبة. في مستهل النزهة، أضعنا طريق العودة. متاهة في غابة وحوش، وهناك أيضاً هذا التشبّث الطحلبي الزائف، بما لم يعد شعراً، أو شعاراً. وحدهم المقاولون، صيارفة بلاغة الاستبداد، يزيّنون النوم في مقبرة جماعية بخطب مستعارة من أرشيف طغاة الأمس.
«ملك أم كتابة؟»، كانت عبارة أمل دنقل تطاردني مذ دخلت مقهى «الروضة». سألني رجل عجوز في الطاولة المجاورة، كان منهمكاً في حلّ الكلمات المتقاطعة عن اسم شاعر مصري راحل مؤلف من سبعة حروف. لا أعلم ما الذي أتى بأوراق الشاعر الجنوبي عن أبي نواس إليَّ، ربما بسبب ارتطام قطعة عملة معدنية فوق الرخام، بعدما وقعت من يد النادل: ملك أم كتابة؟ لا فرق يا صاحبي بين الوجهين، فنحن سنلتقي ذات ليل على مائدة دم، ليل «كنتُ فيه: نديم الرشيد، بينما صاحبي.. يتولى الحجابه».
كما أنني لستُ صيرفياً يا صاحبي، كي تسألني هاتفياً، من مدينتك القصية، وسط ضجيج المقهى، عن أسعار العملات، وما هي نصيحتي لك، هل تحوِّل ما تبقى لديك من أموال تعويض نهاية الخدمة، إلى الدولار، أم تحتفظ بها بالليرة السورية؟ كنت أرغب في أن أسألك عمّا حل بقبائل مسقط الرأس، وهل استعاد فرسانها هيبة الغزو مجدّداً، كورثة نموذجيين لقطّاع الطرق، وهل ما زلت تشرب الفودكا، كآخر ما تبقى لك من ميراث ستالين، أم أنك تفضّل اليوم، القهوة المرّة في مضافة عشيرتك، على أمل اقتناص حصتك من الغنائم، وأموال الجزية؟
ها هم بدو الصحراء يستعيدون إرثهم من الدم المؤجل، الدم المدفون تحت طبقات الرمل، على هيئة زيت أسود، فيغرقون بنعمة الغنيمة، غير عابئين بغيوم السرطان، يكدّسون العملة الورقية بالقبّان، إذ لا وقت لديهم للعدِّ، فهذا قوتهم اليومي من تعطيل قوانين الدولة، واحتضار شهامة الأسلاف الكاذبة. يستبدلون الكلاشنيكوف، ببنادق البرنو الصدئة، كي يحرسوا الزيت المبارك، ويشكروا الرب في الصلوات الخمس على هذا النعيم الأرضي الذي أنساهم النظر إلى السماء. ليست هذه البلاد جمهورية موز، ولا إمارة متمرّدة عند أطراف الثغور، أو طروادة محاصرة، إنها مزيج من كل هذه الجغرافيات: أقوام، وطوائف، وإثنيات، تخوض حروب إبادة بأقصى درجات اللذة، كأنها لم تنم يوماً، فوق سرير عمره ثمانية آلاف عام.