«ترجعوا بالسلامة» معرض لمحمد بدارنة يحوّل معاناة العمّال الفلسطينيين إلى وثيقة فوتوغرافية وسجل يرقّم أسماء شهداء العمل الذين قضوا على يد طبقة محتكرة ومحتلة معاً، ويترك أثراً يذكّر بموتهم الغادر وعيشهم الملغى. حمادة علاء الدين يستقبلك عند باب المعرض الذي أقامه بدارنة أخيراً في «دارة الفنون» في عمّان بالتعاون مع «مسرح البلد».
تنكشف الواجهة الزجاجية المطلّة على الشارع بأسماء عمّال فلسطينيين وتاريخ وفاتهم وأسبابها، وحمادة يتصدرهم مع عبارة تشير إلى موته اختناقاً تحت الرمل. يوقع بدارنة أعمار الشهداء باللون الأحمر، موثقاً وقائع تخفيها الصحافة الإسرائيلية التي نادراً ما تُعلن أعدادهم. تبيّن الإحصائيات أنهم يتجاوزون الـ 60 سنوياً، بينما يمثل عمّال البناء في فلسطين المحتلة 200 ألف، في مجتمع يخرج معظم أبنائه يومياً مع ساعات الفجر للعمل لدى أصحاب عمل جلّهم من الإسرائيليين، من دون عقود وتصاريح رسمية، ولا تتوافر لهم إجراءات ووسائل السلامة العامة، ولا يحصلون على تعويضات في حال إصابتهم أو وفاتهم في أماكن عملهم.
اختار الفنان الفلسطيني الحائط المقابل ليعلّق عليه 6 بناطيل، تعود ثلاثة منها لعمّال قضوا نحبهم، والبقية لآخرين لا يزالون على قيد القهر، وتجاورها صور فوتوغرافية (28 عملاً) انقسمت إلى مجموعات تعكس كل واحدة حالة من حالات الكدّ، أو لحظة عابرة في يومهم الطويل، أو صور الراحلين منهم، يمسك بها الحزن ويد الأمهات.
في إحدى المجموعات، ينبعث الضوء من آلة اللحام، حيث التقطت الصورة من زاوية منخفضة للكاميرا، فتظهر وجوه العمّال اللحّامين التي تتسم بصلابة وثبات وراء واقياتهم المهترئة، وفي لوحات أخرى، تركز العدسة على قبضة أيديهم أثناء العمل، لتنبئ بعزمهم رغم صعوبة أعمالهم، التي تستحق في وقت الراحة صورة تعكس ضحكاتهم وطريقتهم اللافتة في إمساك سجائرهم تعبيراً عن الإنجاز. يجمع بدارنة الحرف والصورة والملابس المعلّقة في تجهيز يندرج في إطار الفن المفاهيمي، الذي استمر الإعداد له سنة كاملة، في محاولة منه لطرح جملة من الحقائق المغيبة، تسندها مغامرة جمالية لرصد حياة هؤلاء العمّال التي لم يلحظها أحد حتى عائلاتهم بسبب غيابهم الدائم عنها.
تُكثف العناصر المعروضة حجم الظلم والقمع الذي يمارسه العدو الصهيوني المسؤول عن تغيير الواقع الاجتماعي للفلسطينيين أبناء الأراضي المحتلة عام 1948. هؤلاء باتوا يخضعون لحكم طبقة تفرض سلطتها بوصفها محتلاً ومحتكرة لرأس المال في آن واحد، وبذلك يصبح العامل أسيراً يعمل لدى سجّانه من دون مقابل، وبلا اعتراف بحقه ووجوده. بحسب بدارنة، تحوّل جزء من الفلسطينيين إلى عمّال في بنى تحتية لا ينتمون إليها مثل: المستوطنات وجدار الفصل العنصري، بل إنّها تتأسس كمراكز لقمعهم وسلب حريتهم وسرقة أرضهم، لكنهم يضطرون إلى احتمال واقعهم بسبب غياب فرص عمل أخرى. يبرع الفنان في اختراق حياة العمّال مواجهاً تحديين: صعوبة الحصول على إذن بالتصوير، وعدم توافر إضاءة مناسبة لمشروعه الذي حصل على منحة «آفاق». يأسف الفنان لاشتغاله على مأساة لن يتمكن أصحابها من مشاهدتها، لكنه يأمل أن يتحول منجزه إلى حملة تذكّر بالعمّال الذين سقطوا يومياً، ومن أجل تحسين ظروف الذين يخرجون يومياً للعمل.



ZOOM | مشروعه الجديد

هدية (عبارة عن كاميرا Leica) كانت كافية لقلْب حياة معلم المدرسة محمد بدرانة (1978) الذي بحث طويلاً عن فسحة يروي فيها التاريخ لتلامذته النيام على مقاعد الدراسة بعد يوم شغل شاق. تاريخ الفلاحين الفلسطينيين الذين جرّدهم الاحتلال أراضيهم، وقادهم قسراً للعمل في ظروف مهينة وقاسية لا تضمن لهم حقوقهم، وأبسطها الاعتراف بموتهم حين تقرر الآلة نهاياتهم. هكذا، خرج بمعرضه «ترجعوا بالسلامة». يرفض بدارنة أي تمويل أو جائزة إسرائيلية. وهو يعد حالياً لمعرضه الجديد الذي يغوص في قصة الأطفال والحياة في النقب، ويوثق حياة حوالى 130 ألف فلسطيني يعيشون في صحراء النقب، ولا تعترف بهم السلطات الإسرائيلية، وتسعى إلى طردهم والاستيلاء على أراضيهم.