روى التشكيلي الراحل برهان كركوتلي (1932-2003) عن إقامته القصيرة في دمشق في أواخر الستينيات من القرن المنصرم، أيام “القلّة” التي عاشها مع زوجته. لم يكن يملك سوى الذهاب مساءً إلى بيت صديقه نذير نبعة علّه يحظى بعشاء. لم يعد الكركوتلي يوماً خائباً من بيت الإنسان الأصيل، الفنان الذي وافته المنية البارحة بعد مرض اشتد عليه. نذير نبعة هو واحد من رموز الفن التشكيلي السوري، ومعلم تخرجت على يده أجيال من الفنانين، ممن أخذوا عنه الفكر والرؤية والصنعة أيضاً، ليصبح بعضهم أسماء لامعة لا يتسع نصنا المختصر لتعدادهم.
ولد نذير نبعة في دمشق سنة 1938، تأثر في بداياته بالرائدين محمود جلال (1911-1975) وناظم الجعفري (1918-2015)، حيث كان يتردد على مرسم هذا الأخير، فكانت أعماله تميل إلى الأعمال التقليدية الأكاديمية. “بيت قديم” (1959) هي لوحة تعبر بامتياز عن هذه الفترة. قبل ذلك الوقت، كان يقوم برحلات مع مروان قصاب باشي (1934) إلى مدن صغيرة على أطراف مدينة دمشق كزملكا، ودوما، وداريا، ليرسما هناك الطبيعة.
تنقل من
«الواقعية السحرية» إلى رسم الفدائي إبان النكسة، فالتجريد

درس نبعة الفنون الجميلة في القاهرة بدءاً من سنة 1964 في مرسم عبد العزيز درويش. بعد ست سنوات، عاد إلى دمشق ليغادرها مجدداً إلى بوزار باريس. بدءاً من الـ 1975، استقر بشكل نهائي في مدينته ليدرس في قسم التصوير في كلية الفنون الجميلة.
في بداياته، لم يخرج نبعة عن الخط الذي رسمه رواد مصر الذين مارسوا تصويراً واقعياً، محاولين إعطاء عملهم طابعاً محلياً من خلال إغناء لوحتهم برموز فرعونية، أو عناصر بسيطة من الحياة اليومية. وجد الشاب في أعمال محمود سعيد (1897ــــــ 1964) ذلك التذوق للتقاليد الشعبية للناس، الذي أسماه حينها “الهوية المصرية”. خلال هذه الفترة، تأثر أيضاً بأعمال السرياليين حامد ندا (1924-1990) وعبد الهادي الجزار (1925-1966). هذا الاهتمام بصنع هوية لعمله ترتكز إلى الحضارات المحلية، تجلى في معرضه الفردي الأول عشية عودته من القاهرة سنة 1965، فرسم انليل وعشتار والطلسم. وقد كان لعودة فاتح المدرس (1922-1999) من روما قبل ذلك ببضع سنوات، الأثر الكبير على الفنانين السوريين، من بينهم نبعة، حيث لفت نظرهم بعودته لاستلهام الإرث الثقافي والجمالي الذي سبق الإسلام. تواكب ذلك الأثر في نفس الفنان، مع إقامته لفترة وجيزة في مدينة دير الزور حيث عمل مدرساً للفنون في ثانوياتها. بدأ نبعة هناك اهتمامه الفعلي بالحياة الشعبية وبملاحم الأقدمين، ويروي كيف كان لسكون الفرات في جريانه أثر عظيم على نفسه، ذلك الجو الأسطوري الذي يجمع الأرض الخضراء والصحراء معاً.
إذن، كان التحول الأول لفن نبعة هو التحرر من الأسلوب الأكاديمي ليرسم بشيء من الرمزية أجساداً آدمية مليئة بالتمائم بوجوه ذات عيون كبيرة تبدو عليها الدهشة الغامضة. هذا الاهتمام بالعيون واكب أعمال نبعة طويلاً. بين عامي 1966 و1975، حاول نبعة أن يجد أسلوبه الشخصي الذي ينهل ويعتمد كأساس على الفن التقليدي المحلي. نتيجة هذه التجارب كانت الأسلوب الذي صنع شهرته، مستفيداً من مهارته في الرسم والتلوين المتأني الذي وضع لوحته في مكان لم يكن لغيره فيه موطىء قدم. الأفكار السريالية و”الطابع المحلي” الذي جلبه كفكرة من القاهرة، أصبحا المرجع الأسلوبي الذي حدد انتاجه حتى بداية التسعينيات حين تبنى الأسلوب التجريدي حتى يوم رحيله.
لوحاته في تلك الفترة كانت ذات جو ملحمي حالم يغلف الأماكن: وجوه سمراء، عناصر ومفردات من الأنتيكا والمصنوعات الحرفية المحلية والحاجات اليومية ليدهش بذلك الجمهور بمواضع أثيرة محببة لديه. لم تلبث هذه المواضيع أن تطورت لتصبح مناظر استشراقية تسكنها فتيات عاريات الصدر أو طبيعة صامتة مغرقة في الزخرفة. بورتريهات في ديكور شرقي دمشقي بامتياز وتفاصيل دقيقة لموتيفات نباتية تحتل مساحات لا بأس بها من اللوحة. “نباتات ووجه” (1974) و”تفتح الزنابق” (1974) وعازفة المزمار (1983) هي من اللوحات التي تمثل بامتياز هذه الفترة التي سماها “الواقعية السحرية”.
كغيره من الفنانين السوريين، “بدّل” مواضيعه عقب نكسة حزيران 1967 ليرسم الفدائي، الوجه الذي ظهر بعد النكسة مباشرة، على أمل أن يكون هو المنقذ أو المخلص. إلى جانب اللوحات التي صورت هذا الفدائي، رسم نبعة “مدرسة البقر”، والشهيد” الثلاثية الأشهر في إنتاج الفنان الراحل.
في مقابلة تلفزيونية تعود إلى بداية الألفية الثالثة، يعترف الفنان أنهم فهموا بشكل خاطىء شعار “اللوحة سلاح في المعركة” وقد تجاوزوه الآن، فيمكن أن تكون اللوحة لوحة ملتزمة ولو لم تصور فيها الكلاشينكوف!” وهذا درس أعتقد أنه مفيد لجيل هذه الفترة.
* تشكيلي سوري