بعد معرضيها «حماقات» (2008) و«الوليمة الكبرى» (2009)، تبدو آني كوركدجيان (1972) أكثر تورطاً في لعبة الجسد البشري، وأكثر رغبة في نبش أحشائه وأسراره وكوابيسه، ولكن التنكيل والعنف اللذين حضرا بكثافة حينها، باتا أقل ضراوةً وجحيمية في اللوحات العشرين لمعرضهاOne Woman Show في «غاليري آرت سيركل». الإقلال هنا ليس تنازلاً عن نوعية العنف والتنكيل بقدر ما هو رغبة في ضبطه وتحويله إلى أسلوب ومزاج شخصيين.
هكذا، عملت الرسامة اللبنانية على دفن هذا العنف بشكل شبه كامل في طيات ودواخل الأجساد في بعض اللوحات، أو اختزلته بحركة واحدة في لوحات أخرى.
في الحالتين، تدفعنا الأعمال المعروضة إلى التفكير في تفاصيل وطموحات تتجاوز مساحات وموضوعات هذه الأعمال.
الرسم هو ترجمة واعية ولاواعية لأفكار وهواجس شخصية أكثر من كونه ارتجالات لونية أو خطوطية. كل لوحة في المعرض تقول فكرة أو مشهداً أو تؤوِّل حالة نفسية. لا تساعدنا الرسامة في وضع عناوين لأعمالها، ولكن ذلك يصبح مجرد تفصيل بسيط في المناخ العام للمعرض الذي تتفوق فيه الأسلبة على كل ما عداها تقريباً، وتصبح هي العنوان العريض للمعرض وللتجربة كلها.
هكذا، يشعر المتلقي بأنه مدعوٌّ إلى تأجيل التأمل في اللوحات قليلاً، والتفرغ لمعاينة الأسلوب الذي يوحّد هذه اللوحات، رغم اختلاف موضوعاتها. الميل الواضح إلى تضخيم الأجساد يذكّرنا بشخصيات الكولومبي فرناندو بوتيرو، وطريقة تلوينها البسيطة تستدعي بعض تجارب الكاريكاتور أيضاً، بينما تسري روح ماغريتية غير مباشرة في المذاق الكلي للوحات.
تستثمر كوركدجيان هذه التأثيرات داخل حفلة أو مأدبة نفسية مكتظة بالتشوهات والكوابيس والندوب والكآبات والانهيارات العصبية. ما يمكن أن نسميه الرسم العيادي (ميشال فوكو وكتابه «تاريخ الجنون» ليس مستبعداً هنا أيضاً) يُحضر مرضاه إلى فضاء اللوحات المكتفية غالباً بكائن وحيد. تحشر الرسامة طائراً في فم مفتوح على اتساعه في إحدى اللوحات. تُخرج يداً بشرية من فم آخر. تُخرج جسداً من جسدٍ آخر. تُدير رأس امرأة بطريقة مستحيلة واقعياً كي تعضّ كتفها. في لوحات أخرى، نجد امرأة ضخمة عالقة في شبكة، بينما أظلافها أو مخالبها الحيوانية تعيدها إلى هوية بهيمية وغرائزية. ونجد رجلاً يستمني بعضوه الصغير المتناسب عكساً من ضخامة جسده، بينما نجده في لوحة أخرى منحنياً بطريقة مقلوبة ليرى العضو ذاته متدلياً كدودة بين فخذيه.
مشهديات هذيانية متجاورة مثل هذه، تفتح المعرض لاحقاً على مشروع آخر موازٍ أو مضاد للأول، حيث نرى ثلاثة بورتريهات لبابوات ورجال دين، ورجلاً (طبيب ربما) يدسّ حبة دواء في فم مريض، ثم نرى سجناء بزيّ أبيض موحّد يدورون في حلقة عقابية، وامرأة وحيدة منكبّة على الكتابة، وامرأة جالسة ترفع امرأة أخرى مرميّة على الأرض. موضوعات تعزّز تفاصيل المأدبة العيادية بتفاصيل مختلفة، وتخفف ـــ في الوقت نفسه ـــ من التنكيلات السريالية الموجودة في الأعمال الأخرى. الرسامة التي أقامت معارض فردية عديدة في لبنان وفرنسا وبريطانيا، ولاقت حفاوة نقدية وإعلامية مستحقة، وحصلت على تنويه خاص من «معرض الخريف» السنوي (2011)، تلتحق بتجارب مجايليها ومن جاؤوا بعدهم في الانتماء إلى الفنون المعاصرة، ولكنها تسعى أيضاً إلى خلق مساحة خاصة لمزاجها الذي يتغذى على الجانب السيكولوجي المعتم لشخوصها الذين لا يستصعب المتلقي تذكرهم في الحياة الواقعية اللبنانية العائمة على ندوب الحرب، والمهددة بجروح إضافية في زمن السلم البارد والهش.
من هنا يأتي تطابق الأعمال المعروضة مع اعتراف الرسامة نفسها بأن «لوحاتي هي أسلوبي، هي أنا أو من أدّعي أن أكونها، هي الجلد الذي أسكن فيه، إقامتي في الجحيم، خلاصي، وجنّتي».



One Woman Show: حتى 28 آذار (مارس) ــ غاليريArt Circle (الحمرا ــ بيروت) ـــ للاستعلام: 03/027776