كنا حائرين ومغلوبين على الإجابة: هل هذا زمن الثورات، أم عصر الشركات الكبرى؟ وكنا حائرين ومتكتمين عن الإجابة: هل هذا وقت الخيال، محرّك الثورات ورافدها؟ أم زمن محرّكات المزاج العام، حيث يصمم «لوغو» الثورة، في مكان، ويُرفع في مكان آخر، وتحصد أثمان ضحاياه في مكان ثالث؟
وكنا، نستعير الكثير من فعل «كان»، في جوقة ثقافة لم تؤصّل، ولم تؤسّس جيداً، متكئين على ماضٍ متخيّل، تشوبه الكثير من أحلام الثورات ما بعد: انتكاسة الثورة الفلسطينية (وقد حملتنا على هامشها)، وانتكاسة اليسار السوري، وقد انفلق إلى شقفتين: شقفة السلطة، وشقفة السجن، وانتكاسة الروح الحالمة في ما بعد «وقائع السنوات العشر»، يوم زحف رأسمال متوحش، وباتت السراويل الضيّقة، أقل اتساعاً من أن تقبلنا، وصار الحشيش، مادة ثانوية في حراثة الأحلام.
بدا الأمر كذلك، فالثورات، يعوزها ـــ مع ذلك وبعده، وفي تلافيفها ـــ اثنان: الأول مثّله أرنستو تشي غيفارا، مطلق آهات الحالمات، والثاني نيلسون مانديلا. اثنان: أولهما «فتى» تعشقه البنات، والثاني أباً تتمناه البنات. وفي الحالين، كانت سوريا، وكما يراها عجوز يتكئ على كرسي محطّم في مقهى شامي: طبقة سياسية لم تُجرّب، وسوق مفتوح على البازار، وسلطة تطحن البشر في آلة، لا بد أنّ مكيافيللي تعلّم منها قبل أن يلقي بتعاليمه على تلميذه الأمير.
هكذا هي الحال، الثورة أوسع من أن تقبلنا، والسلطة أضيق من أن نقبل بها. وفي الحالين، كان على السوري أن يدور حول الوردة لا أن يرقص حولها، وما إن ارتفع صراخ ذلك التونسي عشية ثورة الياسمين «هرمنا»، حتى بتنا نتلمّس جماجمنا، لنتيقّن من كونها محشوّة بالبرغل لا بالديناميت، وكنا مثابرين على تتبّع اليوميات التونسية، مسقطين أحلاماً مجهضة على «ثورة» خرجت من الميناء، واستولى عليها المسجد، وثمة مخاوف لا حصر لها ممن يقيمون الصلاة، أقله، لأنّه ليس ثمة مسجد واحد أنجب مثل مانديلا، ولا ثمة مسجد أنجب تشي غيفارا، وليس لخيالنا أن يتقدّم بنموذجه المبتكر، وقد حطّت الذاكرة في نكسة التجديد، لتتجول فوق خرائط هي باختزال شديد: سوريا المؤجلة.
كل ما فيها مؤجل. حديث الطوائف وقد بدت «الأخوة» قصيدة شاحبة كذّبها البحر ولم ينقذها الغطّاس. ممانعة مؤجلة، ركلها الإسرائيلي ولم ينجها حامل السلاح. حفرة تردم بإطلاق قرار إبقائها حفرة، وكان أن تعثّر السوري بحفرته، بالمؤجل، وتعثر ما بعدها بإنكار كل ما في سوريته من خيبات:
سلطة ظنّت (لا بسبب مكونات الغباء وسوء الحسابات، بل بفعل وهم المطلق) أنّها قادرة على لملمة الطوفان ببسطار عسكري، ومعارضة، اتخذت مثلَها من المصري والتونسي واليمني، لظنها بأنّها ستتسلق إلى كرسي السلطة في أسبوع، وفي الحد الأعلى بسبعة أيّام.
وكان على الشارع السوري المقطّع، أن يتقطّع أكثر فأكثر، ويوماً بعد يوم، ليحطّ الصمت بين طوائفه، ومذاهبه، ومدينته، وريفه، وهوامشه، وحواضره، وليس ثمة شارع واحد في البلاد. الشوارع أكثر من أن تحصى، والمشاريع في السياسة، أكثر من تعداد أزقة المدن، وخصوصاً بعدما سطا الخارج على الداخل، حتى بات السوري وحده لا سوريا فوق تراب بلاده، فيما للتركي حصته، وللقطري حصته، وللإيراني، وللروسي. أما الأميركي فهو خارج اللعبة، ووحده من يحصد ثمار اللاعبين. وكنا في إرهاصات ثورة. ما إن أطلقت فتيلها حتى باتت نزاعاً على سلطة، ليكرّر الطامحون ما أنتجه الأولون، وإن بصورة مسخ، ليبدأ الأولون بالتراجيديا،  وينتهي الوارثون إلى الملهاة، وفي الملهاة، أشلاء مقطّعة على طول البلاد وعرضها، وفي الملهاة مقبرة مفتوحة، مطحنة لا يتوقف نابها عن رفع مزايا العنف، حتى بات العنف وحده (السوري)، بمعدّات مستوردة حصرياً. وكارثة الكوارث أن يستعاد الاستلاب بالاستلاب، ويحصّن الموت بالموت، وما كان إرهاص ثورة، تحوّل تحت وقع خطاب التكفير، والتكفير المضاد، إلى عتبة للقفز نحو الحرب الأهلية، ما يدعو وارفي الخيال، إلى إغلاق الخيال على كل ما هو من اشتقاقات الدم. وحده الدم بات في جماجم المتحاربين، وفي الضفتين: ليس ثمة مانديلا يبعث إلى السوريين برسالة سلام، وليس ثمة تشي غيفارا، يهديهم نشيد الثوار. على الضفتين، بزنس الموت. الحال كذلك، والاسم كذلك، وليس ثمة اسم ثالث، هو بزنس الموت، ولاحقاً بزنس الإغاثة، وبيع السوريّات النازحات، والتجوّل بين مؤتمرات المانحين والمموّلين.
كل الثورات تستعيد أبناءها من مهاجرين إلى بلدهم الأمّ، ليكونوا ثواراً، باستثناء السوري. ما إن بزغت ثورته، حتى حمل حقيبته مهاجراً، ومن المهجر، بات يطلق البكاء والهجاء، (وذروة الكوارث محطات الـ«توك شو»)، ليكون السوري، قوة المثل معكوساً، لا مثل قوة إرادة الحرية، ذلك الهاجس الأشبه بالله الذي لا يعلق الإيمان به على شرط، ما أعادنا ثانية إلى ما كنا عليه: جفاف الخيال وانقطاع الحشيش. سنتان، لا دانتي ولا روبسبير، لا الأول قطع رأس الإله، ولا الثاني قطع رأس الملك. سنتان والآلهة الأرضية توطّد مساحاتها بالسواطير، ملوك السواطير تحوّلوا إلى ثورة القوّة، فقهاء الإبادة احتلوا صدارة المشهد. أمراء الغاز باتوا «الممثل الشرعي والوحيد»، وهذه سوريا تزحف يوماً وراء يوم، لتكون في المكان الآخر من الجغرافيا، لتكون: لا سوريا.بلاد أخرى، لا نعرف نوع الأسماء ولا ماهية أسمائها الجديدة. سنية وعلوية، درزية ومسيحية، وبين مفازاتها ليس ثمة بوابة قبرصية تفصل اليوناني عن التركي، ليقول الأول للثاني «كاليميرا» فيجيبه الثاني: «وعليكم السلام». السلام على الحشيش، وحده الضائع في حقول الشوك.
* روائي سوري