في «نسور لقمان الحكيم» (دار الآداب)، تتنقّل كتابة سيف الرحبي بين المكان والزمان، ثم ترسو على موانئ الواقع مهما حاولت التخلّص من براثنه. كتاب يشكّل مرجلاً يغلي بالمتناقضات شكلاً ومضموناً. بين نثرية الكتابة وشعريتها، تتكدّس القضايا الحساسة التي يسلّط الكاتب ضوءه الكاشفَ عليها، فإذا به ينكأ فينا الجراح نحن المتلقّين وأبناء الأمة العربية عموماً. متّخذاً من براري إحدى نواحي سلطنة عمان بؤرته السردية، يقدّم الكاتب رؤيته في السياسي والفكري والحضاري والاجتماعي، حيث يتخبّط المواطن العربي في أوحال الوجود، كاشفاً عن ندمه لمجيئه الى الكون وندم من لا يواربون ويكابرون مختبئين بعيداً من مراياهم التي تعرّي حقائقهم. «لست نادماً على شيء/ إلا على كوني/ ما زلت موجوداً/ على هذه البسيطة». إزاء هذا الواقع، وعلى طريقة الرومانسيين الذين لم يستطيعوا الانغماس في أتربة هذا الواقع، ولم يقدروا على تغييره ولو بنسبة ما، نرى الكاتب يحمل حقائب السفر الخيالي، ويمضي عبر الكتابة عن بعد مرة
، وعبر توجهه الى المكان الحميم مرة أخرى، مقلعاً نحو جبال وأودية طالما كان الرومانسي يتّقي بظلالها وينعزل في أديرتها الطبيعية من ينابيع وغابات وأوكار طيور، فيحلّق بنا في سماوات بعيدة من حيث المكان، عائداً الى الوراء زمانياً، إلى الذكريات التي يلوذ بها بعيداً من حمم الحاضر وريحه السموم، مرتدياً ثوب الطفولة الذي لا يعتق أو يبلى، لأنّ في مرض الطفولة أوجاعاً للكون، «حينما تمرض الطفولة/ يمرض الكون».بين الرواية والسيرة والمقطوعات الشعرية، يطلّ بنا الكاتب على واقع الشعوب العربية الرازحة تحت أثقال القمع وانعدام الحرية، مازجاً بين حالتها وحالة الفلاسفة الذين يرى فيهم نيتشه كائناتٍ تراجيدية تئنّ تحت وزر ما تحمل، فلا تستطيع الاستمرار بما تحمل ولا يمكنها إلقاء تلك الأحمال عن أكتافها: «يمكن القول إنّ الشعوب العربية تمثيلاً، شعوب تراجيدية بامتياز. فهي ترزح تحت أحمال القمع والإكراه الثقيلة، تجتاز بها عقاب الزمن والحياة في هذا المسار الشاق. وحين تفكّر بالتخلّص من تلك الأحمال ويطوّح بها نداء الحرية البعيد، تدفع أكلافاً باهظة وينفجر الدم أكثر غزارة من الأنهار».
وبرغم انسحاب الكاتب وانسحابنا معه الى عالم الطبيعة التأملي، وعبر اعتماده النمطين السردي والوصفي وسيلة تجذب القارئ الى عالم آخر بعيد من أنهار الدم والقتل واغتيال الإنسانية والقيم، إلا أنّ الكاتب كان منسجماً مع ذاته. لم يصل الى حدّ التطرف كالكثيرين من الرومانسيين الذين يبنون عالمهم بصلصالهم الخاص، فيظهر عالماً سحرياً لا يشوبه شيء. فقد وقف الكاتب في المكان الوسط، بين الواقع الصعب والعالم الخيالي، معترفاً لنفسه وللآخرين بأنّ ذلك العالم البعيد المقصود لم توفّره يد العولمة التي أطاحت كل شيء، حتى القيم، ولم يبقَ المكان الحلم بمنأى عن براثنها. ذلك المكان الذي كان بعناصره الطبيعية مصدر توحّدٍ بينه وبين طفولة الكاتب المنصرمة «لم تعد الجبال ولا الغابات والصحارى تخبّئ خلف حجبها الوحشية بهاء القيم الإنسانية والجمالية الأولى، تلك التي لم تتلوّث بمكتسبات الوعي البشري كما كان يحلم أدباء وفلاسفة، بل غزتها قيم ذلك الوعي المعولم في جوانبه الأكثر تدميراً لنزوعات الفطرة النقية والقلب».
لذا، نرى الكاتبَ سندباداً أو عوليس جديدين، ما زال يبحث عن شاطئ المكان البعيد من مخاطر التيارات والحروب والأعاصير، طالباً السلام شبه المفقود، «هكذا انفرط العمر/ بحثاً عن الوطن والمكان»، الأمر الذي جعله يدخل في سراديب الإحباط، واليأس، مصاباً بالمازوشية ورديفتها الدونية، نادماً وجاعلاً الموت سهلاً كالنوم على طريقة المعري: «النوم هو الموت الأصغر/ إذن يكفي مع توالي الأيام والسنين/ لهذه العادة الغريزية والإدمان/ أن تدخل عرين الموت الأكبر بهدوء/ وراحة بال من غير هول/ الوصف الذي راكمته الكتب، الخيالات والأساطير».
هكذا، استطاع الكاتب أن يعبرَ بنا المكان والزمان معاً، معرّياً حقائقَ نحاول إخفاءها، معتمداً أسلوباً مشوّقاً يدفع القارئ الى الانغماس في حدائق التعبير، لما يختزنه هذا العمل من أنماط مناسبة، موظّفاً قدرته الشعرية ولغته المطواعة في جعلنا نترنح على أرجوحة المكان والزمان معاً ومن الواقع الحالي، حيث ما تشهده البلاد العربية من اضطرابات إلى عالم الطفولة الجميل في ربوع البراري التي تدفع الى ما يشبه التصوف والتأمّل. وبين هذا وذاك، لم يكتفِ الكاتب بأن يكون عارضاً وكاشفاً فحسب، بل أعلن عن تخوّفه من الأخطار المحدقة بالأفق، محذّراً من الفتن التي لا تزال نائمة وقد تستيقظ في أي وقت كما عوّدتنا عبر العصور: «الفتنة نائمة، لكن ها هي تمدّ مخالبها إلى الأمام وتتثاءب، لتستيقظ، من بين الأنقاض والأشجار الهرمة، عنقاء العصور».