منذ سنوات، يتكئ أحمد معلا (1958) على معجم الكارثة في إنشاء عالمه اللوني، مستبصراً طبقات الهلاك المقبل، كما لو أننا إزاء نبوءة إغريقية، أو على بعد خطوات من جحيم دانتي. حشود بشرية متلاطمة في قيامة موت محقّق، وسفينة على وشك الغرق. إنه يوم الحشر، كما وصفه شاعر ضرير مثل المعري الذي أهداه التشكيلي السوري المغامر، أحد معارضه التي سبقت أتون النار السورية، كما سيحضر المتنبي، في أعمالٍ أخرى. وها هو في معرضه الجديد «وَقورٌ وَأَحداثُ الزَمانِ تَنوشُني» الذي تحتضنه «غاليري مارك هاشم»، يستضيف أبا فراس الحمداني، في إشارة إلى معجم الحنين إلى بلاد باتت بعيدة، إثر هجرته القسرية إلى باريس. أجل «ليلى السورية» مريضة، ولا طبيب يداوي عللها. لكننا، سننتبه، إلى أنّ معلا، يؤكد، هذه المرّة، أنها تحتضر، مضيفاً إلى جحيمه الأسود، ضباعاً جائعة، في معالجات مشهدية، ووقائع جنائزية، لم تعد بحاجة إلى وصف أسطوري، أو سخط الإلهة.
ذلك أنّ ما تشهده البلاد صار كابوساً دنيوياً، يلقي بثقله على الأرواح الهائمة، في بحثها عن طوق نجاة وسط العاصفة. لعل هذه المرجعيات والإحالات المتعددة، هي ما يمنح أعمال معلا ثقلاً معرفياً، واكتنازاً فلسفياً، بالإضافة إلى مهاراته التقنية اللافتة، ومغامرته في استثمار المزاوجة بين التصويري والإعلاني، وعمليات الهدم الدؤوبة لكل ما هو يقيني وراسخ، عبر مسرَحة شخوص لوحاته، فوق خشبة مهتزّة، يكاد الحريق أن يلتهم أطرافها، حين لا تنفع الاستغاثة، أو الندم والمغفرة.
مسوخ بشرية تطاردها اللعنة، ووحوش تقتحم المشهد

مسوخ بشرية تطاردها اللعنة، ووحوش تقتحم المشهد. كأن رائحة الموت تهبّ من الجهات الأربع، وإذا بالبلاد طريدة للافتراس. على أنّ هذه المشهدية الفجائعية، تنطوي على ثنائيات ملائكية متعانقة، على تخوم اللهيب. هكذا تحتشد السطوح بمناخات مشحونة بغنى حركي ودرامي، يشي بكارثة أو مأتم أو عرس، على خلفية غرافيكية صارمة، في نزهة لونية تتناوبها طقوس الألم والبهجة المباغتة، أو لوعة التشبث بحياة قيد الانطفاء، بالإضافة إلى تكوينات طربية مضمرة يتناوبها بها الضوء والظل من منظور جمالي مغاير، يبرر رحابة المساحة، والغنى اللوني من جهة، وقدرته على التحكّم بحركة الحشود، في سينوغرافيا مضبوطة بإتقان. إذ لم يبق أمامه إلا إعلان النفير، وصيحة «إنه الخراب العظيم». لعل أهمية سرديات معلا البصرية تكمن في هتك النزيف السوري قبل وقوعه بسنوات. وتالياً، فإن ما نشاهده هنا، ليس ترجيعاً للوقائع الآنية، بقدر ما هو استبصار كابوسي لما سيقع. لم يكن ما كنا نضعه في خانة النبوءات الميثولوجية إذاً، مجرد هذيانات جنونية، وكوابيس شخصية، فها نحن نغرق في وليمة الدم السورية، كما لم يغرق أحد قبلاً. وبهذا اللجوء إلى أبي فراس الحمداني في عنوان معرضه «وقور وأحداث الزمان تنوشني» يلخّص أحواله، تاركاً الشطر الثاني من البيت في مهبّ المتلقي في تفسير طبقات الفجيعة والفقدان والهجران «وللموتِ حولي جيئة وذهاب». ليست مرثية لخراب بلاد، بل لحطام روح ممزّقة، وشهادة حارة تتجاوز الانفعال اللحظي إلى طبقات أعمق من الألم والنفير، كأن بدأها معلا باكراً، منذ أن وضع ملحمة سعد الله ونوس «طقوس الإشارات والتحولات» في مختبر اللون، مفجّراً الأسئلة الغريزية الأولى بكل طاقته وتمرده وفوضاه. أسئلة الخصب والفناء، الأمل والعدم، الانبعاث والموت بضربات ريشة نزقة تطيح التفاصيل والملامح، لتحيل الكتل على مسوخ مسربلة بالسواد والخشونة، وتوتّر الجسد المحكوم بمصيره القدري الغامض. ههنا كائنات مأزومة تواجه سحر الموت بتمائمها ونزواتها وتوقها للنجاة في تكوينات مرئية مكثفة ومتناقضة في آن. لعلها وحدات سردية تقول الشيء ونقيضه بارتجالات لونية. تطيح الوصفات الجاهزة وتتمرّد على المقدّسات اللونية، كما لو أنّه يقف على حبلٍ مشدود، فوق هاويةٍ سحيقة. على الضفة الأخرى، يناوش معلا منطقة تشكيلية مختلفة، لطالما كانت محط سجالات غزيرة حول خصوصيتها في المحترف الشرقي، وذلك حين يقتحم باب الحروفية بوصفها جزءاً أساسياً من مقترحه البصري المتجدّد، في رهان على استثمار بلاغة الحرف جمالياً. إضافه إلى مشاغله في التصوير والتجهيز والملصقات الإعلانية، هو خطّاط مبتكر، أتى من خارج مدارس الخط التقليدية. سنلحظ أولاً، إقحامه الخط في نسيج اللوحة، على هيئة بيت شعر، أو شذرات فلسفية، متماهياً مع عناصرها الأخرى. وها هو في معرضه هذا، يفتح الباب على مصراعيه أمام الحرف، ليس اتكاءً على معنى شائع، بقدر ما هو مقترح بصري، يكاد يكون موازياً لحضور كائناته القلقة، في أعماله الأخرى، إلى أن تشفّ هذه الأشكال إلى حدود التجريد. كأن اللون والتواءات الحرف واحتفاليته وتشابكاته، هي من يقود إلى المعنى المضمر، في شحنة تعبيرية عالية ومحتدمة ومشبعة، تتجاوز ما هو زخرفي وهندسي وعقائدي إلى فضاء تصويري، يستنفر الحواسّ، ويحلّق بها إلى تخومٍ شرقية أصيلة، تزاوج بين قيم الخط العربي ومقترحات الحداثة في إطارٍ واحد، من دون إسراف أو مجانية. عمله «الورود الدمشقية» نموذج صريح على توجهاته الجمالية، في هذا المضمار، وذلك في مشهدية موازية، لما أنجزه على المقلب الآخر، فللحرف روحه المتوثبة والقلقة والتائهة في لجة العاصفة.



«وَقورٌ وَأَحداثُ الزَمانِ تَنوشُني»: حتى 10 كانون الأول (ديسمبر) ـ «غاليري مارك هاشم» (وسط بيروت) ـ للاستعلام: 01/999313