ترحل رضوى عاشور بعدما تركت في كتابها «أثقل من رضوى» («دار الشروق» ــ 2014) الكثير من الذكريات التي تجعل القارئ جزءاً من عالمها الداخلي والحميم. أنجزت العمل كسيرةٍ ذاتية تكمل السيرة التي أصدرتها عام 1983 تحت عنوان «أيام طالبة مصرية في أميركا». في الأخير، تناولت حياتها كتجربةٍ معيشة. وفي «أثقل من رضوى»، تتأمل الكثير من الأحداث التي عصفت بحياتها وتعيد روايتها وفق رؤيتها «هي». رسمت في الكتاب ملامح للحياة التي عاشتها، بإضافة الكثير من تفاصيل تمثل «صنعة» الحدث بحد ذاته.
تحادث القارئ أغلب الوقت بلغة المباشر/ المخاطب، مبتعدةً عن سلوك الغائب في النص، تنهج صوب الخبر وما وراءه في حياتها. تشرح لِمَ غضبت، ولِمَ وقفت وكيف أنّ حدثاً عادياً كشراء ثيابٍ قد يكون له تأثيرٌ على حدث جلل كبير في ما بعد. إنها ــ في الكتاب وحين رواية سيرتها- الشخص نفسه الذي لم تغيّر الأيام منه شيئاً. لا تزال الشابة نفسها التي «ما إن تجد الشارع خالياً نسبياً، حتى تروح تركل أي حجر صغير تصادفه بقدمها اليمنى، المرة بعد المرة في محاولة لتوصيله إلى أبعد نقطة ممكنة». لم تكن تتعامل مع الحدث السياسي اليومي، إلا كمرآة لحياتها الشخصية الخاصة. كانت رضوى قد بدأت كتابة هذه السيرة وهي في الرابعة والستين (أي قبل أربع سنواتٍ من رحيلها ومن توقيت صدور الكتاب/ السيرة). في البداية، تستحضر سنوات العمر كثيراً من أسئلة: فهي لم تجب أبداً لِمَ انتقت هذه السنة بالذات كي تكتب سيرتها؟ هل كان هتافٌ داخليٌ أنّها سترحل هذا العام لذلك كان انتقاؤها لسنة رحيلها كي تكتب سيرتها «الكاملة»؟ كم هو مثيرٌ للاستغراب أن تختار سنة رحيلها بدقة كي تخط ذكرياتها جميعها وتتشاركها مع زوجها الشاعر مريد البرغوثي، وابنها الشاعر تميم، قبل أن تتشاركها مع القراء أنفسهم. يشارك مريد وتميم في الحدث نفسه أي السيرة بصفتهما بطلين مساعدين في حياتها، فهما يظهران في تلك القصص الصغيرة اليومية لأنّهما أصلاً جزء من الحكاية المعيشة.
لكن رضوى لم تكن لتكتفي بذلك. حياتها أكثر جذلاً من مجرد حكاية امرأةٍ وأسرتها. السيرة ههنا تبدأ بأسئلة كثيرةٍ وبعواصف من مشاعر على عادة كتب رضوى، فهي تهوى البدايات «الصاخبة». تصرخ في القارئ بأن الكتابة أصلاً هي فعلٌ أناني «يفرض درجة من العزلة الداخلية، ينفيك عمن حولك أو ينفي من حولك، ويضعهم على الرف إلى حين فعل ينفي الآخرين ليخاطبهم ويكتب حكاياتهم، يقصيهم ليراهم أكثر، يبتعد ليقترب، ويعزلك ليتيح لك تبديد وجودك المفرد وإذابته في وجودهم ومكانهم وزمانهم عجيب!». هو وضع القارئ أمام أسئلةٍ أكثر وإجاباتٍ أقل لا ينهيها إلا غرقه في صفحات السيرة. هي تهوى المشاركة، ذلك أمرٌ لا لبس فيه، مشاركة المشاعر، والألم وحتى تلك اللحظات التي لا يستطيع المرء تجاهلها، فمن الامتقاع حين سحبت نوارة نجم إثر نجاتها (أي نوارة) من مجزرة العباسية، وأخذتها إلى منزلها لتحاول صرف انتباهها عن المجزرة وما حدث، إلى العودة للوم الذات في الصفحة نفسها وفي اللحظة/المعيشة نفسها. تعتذر بكل ألق وأدب عن ذلك... فهل كانت تعتذر من نوارة لأنّها لن تراها مرة أخرى، أم تعتذر منا كقراء ومن الشهداء جميعاً لأنّها ـ اعتقدت- بأنّها إن صرفت الانتباه عنهم ولو لثانيةٍ تكون قد أخطأت بحقهم؟
عرّت الراحلة في «أثقل من رضوى» كثيراً من ذاتها، كثيراً من أحلامها وآلامها. مثلاً حين تستيقظ من نومها الإجباري إثر عمليةٍ جراحيةٍ «ناجحة»، تفاجأ بأن البلد لم يعد كما هو، وبأنَّ الثورة قد حلّت. فجأة تجد أن الأحلام التي سعت إليها سنين طوالاً قابلةٌ للتحقق، وأنّ الشبان الذين لطالما حلمت بأنهم سيقودون التغيير، قادرون عليه. ذلك كلّه إثر نومٍ مفاجئ ألمَّ بها. ماذا بعد؟ هل كانت رضوى تعلم بأن نومها الجديد سيكون اليوم على أبواب ثورة شبابٍ مصرية تلوح في الأفق؟ هل ستستيقظ من جديد ليخبرها تميم –مرة أخرى- بالخبر على دفعاتٍ خوفاً على صحتها؟ لا ريب أن تميم حائرٌ اليوم في ما يقول لوالدته؟ ربما حتى هو لا يصدّق أنَّ الموت يمكنه أن يهزم إمرأة مثل والدته.