فرقة «زقاق»: عن المسرح ومعنى إعادة التأسيس

  • 0
  • ض
  • ض

لطالما ارتبط همنا المسرحي برابط إشكالية علاقته ودوره في محيطه وبيئته. ولطالما تولّدت عن هذا السؤال إشكاليات عدة نقاربها في كلّ زمان، مقاربةً تفيد الأسلوب والمضمون. من هذه الإشكاليات ما يؤثّر فهمها على الأسلوب والمضمون تأثيراً مباشراً لا شكّ فيه. من البديهي بأن يتأثر فعلنا المسرحي بنظرتنا إلى الحياة الاجتماعيّة، ومنهجيّة قراءتنا لتاريخنا الإنساني وتاريخنا السياسي، كما برؤيتنا إلى المجتمع وفلسفتنا الاجتماعية والاقتصادية، كذلك بنظرتنا تجاه نوعيّة الفعل والموقف الذي نريده من ذاتنا ودورنا ومحيطنا في كل زمان ومكان، ومع التطوّرات كافة وضمن الأحداث كافّة التي ترسم مسار حياتنا اليوميّة وتؤثّر بها. لطالما اعتدنا ضمن هذا المنظار على التعريف بالمسرح واعتباره ــــ إلى جانب بعده الاجتماعي والفني وإفادته بالمتعة بكافة مستوياتهاـــ مساحة تطرح التساؤلات وتحلّل الإشكاليات، سانحة للجمهور إمكانيّة النّظر من أكثر من جهة إلى المسائل وهي تحول أمامه نماذج حيوات مركّبة معقّدة، فاتحة المجال أمام إمكانيّات واحتمالات جمّة للتعامل معها. لكن هل تبقى هذه أدوار المسرح الوحيدة؟ هل من المفيد أن نبقى على الفهم وطُرُق المعالجة نفسيهما؟ هل ما زال هذا الفهم للمسرح ودوره يواكب فهمنا الحالي للمحيط؟ أي فهم للمحيط لدينا اليوم؟ ما هي علاقتنا به؟ إلامَ يمكن أن نسعى في مسرحنا اليوم؟ ما هي الحاجة منه؟ أي علاقة من التاريخ، من الأحداث، من المجتمع، من الفرد اليوم؟ أي تاريخ وأي مجتمع وأيّ واقع نعمل ضمنه اليوم؟
السّياق
حين نطرح تلك الأسئلة، يظهر أنّ الإجابة عليها تتأثر بكيفية نظرنا وفهمنا لمفهومين أساسيّين، وهما المسرح والسّياق (المحيط/ البيئة – زماني ومكاني). وبما أنّنا نحاول فهم دور وشكل ومضمون المسرح الذي نريد، من خلال فهم علاقته بمحيطه، لا بدّ من أن نوضح فهمنا للسّياق. إن السّياق الذي يعمل المسرح ضمنه ليس مستوعباً ثابتاً يمكن تعريفه كمكنون جوهري ذاتي. هو ليس ذاتاً تحمل الأعراض، ولا هو كياناً يحمل صفات وحالات متنوّعة. إن السّياق باعتباره محيطاً وبيئةً له امتداد زماني ومكاني، إنما هو شبكة محايثة (من حيث) تحوي علاقات حياتيّة شاملة، لها امتداد مفاهيمي حيّ يخترق الحاضر والـ هُنا إلى ما هو أشمل وأكثر تشعّباً. من هنا، ومن حيث الزمان، لا يكون الماضي خطّاً مستقيماً أو برميلاً يجمع الأحداث المتسلسلة، بل شبكة رباعيّة الأبعاد تتكوّن منها الحيوات (الخبرات الحياتيّة). كما لا يكون المستقبل مساراً بمحطّات نسلكه متنقّلين بين محطّاته، بل أيضاً شبكة رباعيّة الأبعاد تتكوّن منها الحيوات.

هل يمكن لمبدأي المحاسبة والعفو أن ينطبقا على زعماء لبنان وجماعات داعش والنّصرة والقاعدة؟
كما لا يكون الحاضر مجرّد لقاء بين الماضي والمستقبل، بل وعياً حاضراً لشبكة رباعيّة الأبعاد تتكوّن منها الحيوات. هذه النّظرة تخلط الحاضر بالماضي والمستقبل، وتجعل السياق الزمنيّ الذي نعمل ضمنه شبكةً متداخلةً تشكّل الحيوات، متفرّقة حيناً ومتلاقية حيناً آخر. الأمر نفسه ينطبق على السياق المكاني، فلا ينفصل بين الـ هُنا والـ هناك والمكان الآخر. وأهمّ ما يكمل هذه النظرة هو عدم انفصال السياق الزماني عن المكاني بشكل مطلق، كما عدم التقاء السّياق الزّمانيّ والمكانيّ بشكل مطلق. يعتمد هذا اللّقاء على علاقة الحيوات التي تتشكّل صدفةً حيناً وعمداً حيناً آخر، اعتماداً على الإنسان ونسبةً إليه (تستند هذه النظرة إلى الفينومينولوجيا ونظريّة فلسفة دولوز في المحايثة وتكوّن المفاهيم، ولكن بنقلها من مكانها المفاهيمي المحض إلى بنية حيّة لها علاقة بالتّجارب والمعاش الحياتي فأسميناها الحيوات/ الخبرات الحيّة، وهي تجمع بين الظاهرة والمفهوم والمعاش الحي). كما تنتقل الحيوات المتشكّلة المتكوّنة من مجالها المفاهيمي النظري إلى تكتّلها المعاش الحيّ بفعل الإنسان الفرد (وهو شبكة كذلك)، وتتكثّف هذه العمليّة وتبرز في المسرح. يتعامل المسرح إذاً مع هذه السياقات الزمكانيّة وحيواتها، وإن نظرنا إلى تفصيل هذه السّياقات نظريّاً، فهي تتكوّن من سياقات ثلاثة: الزّمان، والمكان، والإنسان. أمّا سياسيّا فنسمّيها: التّاريخ، والطّبيعة والعمران، والفرد والمجتمع. يكون التّاريخ إذاً هو التسمية السياسية للزمان، بينما تكون الطبيعة والعمران التسمية السياسيّة للمكان، وهي تتضمّن تكوّنات المدن والتجمّعات البشريّة، إضافة إلى العناصر الماديّة الحيّة، بينما يقوم الفرد والمجتمع مقام التسمية السياسيّة للإنسان. بتعامل المسرح مع هذه السّياقات، ومن أجل محاولة الإحاطة بالأسئلة حول أيّ مسرح نريد وأيّ علاقة له مع محيطه، ومن أجل أن نصل إلى طرح يحاكي نظرتنا إلى المسرح اليوم، نخوض الآن في تلك السّياقات بِدءاً من التاريخ، والمسائل التي تعنينا وتمسّنا منه، متطرّقين بعدها إلى علاقة المفهوم والخبرة، وعلاقة الفرد والمجتمع، وصولاً إلى دور المسرح من ذلك.
التاريخ
غالباً ما يُقرأ التاريخ قراءة منطقيّة سببيّة، أي باعتبار أن كلّ حدث ينتج عن سبب يربطه به رابط منطقي مباشر، فيكون التّاريخ بذلك سلسلة من الأسباب والنتائج، من العلل والمعلولات، تؤدّي بمجملها إلى قراءة خطيّة لا تحيد عن المنطق الفكري، ولا يمكن لها أن تحيد عنه. من شأن مثل هذه القراءة للتاريخ أن تستثني الاستثناء، وأن ترمي بأحكام الصّدفة أو القطع في مسار التّاريخ جانباً، فلا تترك مكاناً لغير المتوقّع، للخلق الجديد، للحرق، للتدمير، للنسف، للبناء الجديد. إن تتبّعنا حركة هذا التفكير المنطقي السببي في التّاريخ، لوجدنا أنه ولّد مفهومي المحاسبة والعفو التاريخيّين، وهما المفهومان الأكثر تداولاً حينما يتعلّق الأمر بالحروب والجرائم والمجازر، أي في الحالات التي يخرج بها العقل إلى فعل الإلغاء ونفي الآخر. لا تكون عمليّة الرجوع إلى هذين المفهومين إلا محاولة لعقلنة ما جرى وإعادته إلى مسار التعليل المنطقي، إلى سلسلة السببيّة التي لا يريحنا الخروج عنها، وبالتّالي إلى محاولة إيجاد تبريرٍ لما حدث، وتصويبه في مساره الإنساني العقلاني. من هنا يكون للمجرم سبب لإجرامه وللضحيّة سبب وهكذا. ولكن، وإن حاولنا أن نطبّق هذا المفهوم على ما يحدث من حولنا اليوم، في ظلّ الهجوم الشرس والقمع المروّع التي تقوده الأنظمة والجماعات المتطرّفة بإرهابها، وإن طبّقنا ذلك أيضاً على خلاصات الحرب الأهلية اللبنانيّة، هل يمكن لمبدأي المحاسبة والعفو أن ينطبقا؟ هل يمكن تطبيق ذلك على زعماء لبنان وجماعات داعش والنّصرة والقاعدة وغيرها؟ هل يمكن تطبيق ذلك على أنظمة سوريا وأميركا وإيران وسواها؟ ألا نفهم من ذلك أن ما نحتاجه هو عمليّة قطع لتأسيسٍ جديد؟ إلى إلغاء يؤدّي إلى بناءٍ جديد؟ ألا نحتاج إلى التأسيس لجريمة جديدة؟ حرب جديدة تولّد معها أفقاً جديداً؟
المفهوم والخبرة الحياتيّة: الفعل والنّظر
من ناحية أخرى، حكم تاريخ المسرح (الذي نعرفه اليوم) العقل السببيّ الفكريّ ذاته، إذ نرى أنّ معظم أبطال وشخصيّات المسرح الذي أتى من سلالة المسرح الاغريقي هي عالقة في صراعات على مستوى الأخلاق والمثل والمبادئ والفكر، إنّها شخصيّات يغلب على فعلها الكلام والمجادلة والتّفكير والمناجاة... إنّها شخصيّات تعكس حركة الفكر وجدليّاته، تتمحور حول المشكلة وتتغذّى منها عذاباً أو إفادة، هي غارقة في دوّامات من الشّك وغالباً ما يكون شكّها تساؤلاً حول قيم أفعالها، أو وجودها: أفعل أو لا أفعل، أكون أو لا أكون. إنّه العدم بذاته، هو ما ينقل الفعل إلى مستوى الفكر، فيقتل الممارسة، وتصبح الحياة نظريّة عدميّة، والشخصيّة المسرحيّة غارقةً في عدمٍ نظريٍّ بدل أن تكون كالرّاقص الذي اعتبره نيتشه أعظم فيلسوف.
ألم يحن الوقت من جديد لإعادة النّظر في الممارسة بدل الطروحات النظريّة فقط؟
ألم يحن الوقت من جديد لإعادة النّظر في الممارسة بدل الطروحات النظريّة فقط؟ أيّ فعلٍ نحن منه؟ أيكفي أن نكون شهوداً على الأحداث ونفكّر في موقعنا منها كأنّنا في منأى عنها؟ وكأنّ لا مسؤوليّة لنا بفعلها؟ هل هناك من سبيل للفهم إن لم نضع أنفسنا داخل الفعل ذاته؟ هل تكون المسؤوليّة فرديًّة أم جماعيّة؟
الفرد والجماعة
من غير الخفيّ أننا نعيش اليوم علاقةً ممسوخةً في التّعريف والانتماء بين الفرد والجماعة. لم تصبح الهويّة الفرديّة مكتملة (بخاصّة في مجتمعنا) بينما تجهد الهويّات الجماعيّة للإبقاء على مرجعيّتها في تكوين المجتمعات. في المجتمعات التي تنسب نفسها إلى الفردانيّة، نراها تشكّل هويّات جماعيّة جديدة كالنّسويّة والمثليّة وسواهما، مشكلّة انتماءً جديداً لجماعات هوياتيّة. أمّا في مجتمعاتنا، فنجد الأفراد الذين قرّروا الانعتاق عن مجموعاتهم الطائفيّة أم القبليّة، يرتبطون رغماً عنهم بتلك الجماعات من نواحٍ عاطفيّةٍ أو قانونيّةٍ أو سواهما. في ظلّ هذا الواقع المتداخل بين الفردانيّة والجماعيّة، تبرز مسألة المسؤوليّة عمّا يقترفه الفرد من جهة وعمّا تقترفه الجماعة من جهة أخرى. لطالما تبنّت الجماعات خير ما فعله أفرادها ونأت بنفسها عن شرّه، ولطالما نسب الأفراد فعلهم سلباً أم إيجاباً إلى تأثّرٍ بالجماعة أو المجتمع. في خضمّ هذا الجدل المستمر، وفي العودة إلى مسألة الشّهادة على الأحداث، يكون الموقع الأكثر مسؤوليّةً وصدقاً هو حين لا ينأى الفرد عن فعل الجماعة، ولا تنأى الجماعة بنفسها عن أفعال أفرادها، فيكون على الفرد تحمّل المسؤوليّة بشكل دائم، واضعاً نفسه داخل الفعل وليس خارجاً عنه، فيصبح هو الفاعل المؤثّر وليس الشاهد الحياديّ النّاقل للقصّة وراويها.
المسرح
انطلاقاً من هذه المفاهيم، يمكننا أن ننظر إلى دور الفرد على خشبة المسرح، ممثّلاً كان أم شخصيّة، باعتباره متبنّي الفعل والحدث، وليس الشاهد عليه، هو القاتل وهو المقتول في آن، هو «كان» هملت الذي يتصارع مع فعله وعدمه، وهو اليوم ينزل من شكّه ويفلع التّابوت ويوزّع جثّة أبيه، وليس شبحه، بيديه. هو هملت وريشار الثّالث وأوفيليا والكترا، وهو بالطّبع ليس هوراشيو الشّاهد (من «هملت مكينة» لهاينر مولر). أليس هكذا يكتسب العالم مصداقيّة؟ أليس بالفعل تكتسب الحقيقة فهماً؟ وكيف يكون التأسيس الجديد إن لم ينزل الجدل إلى الممارسة وإن لم تفتح أبواب المعارك من جديد؟ تعكس معظم الأعمال المسرحيّة الإشكاليّات التي يقع بها عالمنا اليوم، ولا تقوم بطرح احتمالات تأسيسيّة، بينما من المهم والضّروري خوض غمار هذا الحقل. هي ليست دعوة للمسرح لطرح الحلول، بل طرح ممارسات تفتح أبواباً لبنى جديدة، لتأسيسٍ جديد، ينبع من معارك وربّما جرائم تحرق لتبني من جديد، لتفتح أمامها مسارَ ممارسات تستقي من الحياة للموت ومن الموت للحياة. كيف يكون التّأسيس؟ يأتي التّأسيس من مدخل إعادة التّمثيل، من تبنّي الفعل مسؤوليّةً وعملاً، من إعادة اقتراف الجرم، من فتح المعارك وخوضها، من فرض الحروب وخوضها، كي تنبع منها معاني جديدة، مفاهيم وقيم جديدة، تعطي للحياة احتمالَ الوجود. * فرقة «زقاق» (30/7/2015)

  • أعضاء الفرقة: كريستيل خضر ومايا زبيب ولميا أبي عازار وجنيد سري الدين وهاشم عدنان، ويغيب عن الصورة عمر أبي عازار

    أعضاء الفرقة: كريستيل خضر ومايا زبيب ولميا أبي عازار وجنيد سري الدين وهاشم عدنان، ويغيب عن الصورة عمر أبي عازار

0 تعليق

التعليقات