الرباط | يبدو أّن فريد بلكاهية (1934 ــ 2014) يسخر من الموت. رغم رحيله المفاجئ قبل أسبوع، إلا أنّه لا يزال فاعلاً في عالم الفن المغربي. هكذا لن يسدل بلكاهية الستار على تجربته الفنية إلا بعد المعرض الذي يفتتحه «معهد العالم العربي» في باريس يوم 14 تشرين الأول (أكتوبر) الذي يحتفي بـ«المغرب المعاصر»، بينما يُطلق اسمه على قاعة في «متحف محمد السادس للفن الحديث والمعاصر» في الرباط.
بين الحدثين والمساحتين الجغرافيتين، ينتزع الفنان البارز في التشكيل المغربي الحديث «الاعتراف» الأخير، بمنجز اختمر بين البلدين، وسافر في العواصم الدولية.
بيضاوية الأرض تصير أكثر وضوحاً في أعمال بلكاهية، وعيون تنبع في السماء تنظر إلى رقعة من اللوحة. تستحيل الأرض أحياناً إلى مثلثات وجغرافيات متشعبة، بينما الأيادي، الأكف، الأسهم والشموس تظهر كل تعقيدات النقش/ الوشم، الضاج بالألوان. من المحلي استخلص بلكاهية تشكيلاً معاصراً. لم يكن هذا الاختيار عابراً في تجربته، إنما وليد مقاربة فنية، ارتهنت إلى مقاربة نظرية طورها عبر الزمن.

رحيل الفنان أثار الكثير من المداد. من أول من نعاه موليم العروسي، مدير المعرض الذي ينظم في «المعهد العربي» في باريس تحدث عن «نهاية حكاية»، في إشارة إلى منجز الفنان الإبداعي الغزير. جاك لانغ وزير الثقافة الفرنسي الأسبق والمدير الحالي لـ«المعهد العربي» في باريس كتب رسالة في نعيه، قال فيها إن «فريد بلكاهية عاش كبيراً، رحل كبيراً، وسيظل كبيراً في تاريخ الفن. إنه واحد من كبار الفنانين المغاربة والعرب. هو جسر بين أفريقيا والغرب. إنّه فخر المغرب المعاصر». المهدي قطبي رئيس «المؤسسة الوطنية للمتاحف» تحدث عن أنّ المغرب «فقد مع رحيل فريد بلكاهية شخصية كانت من أرقى ممثلي الساحة الوطنية المغربية».
نعي الفنان الرائد لم يقتصر على النقاد والرسميين، بل على فنانين شباب من ضمنهم الفنانة للا السعيدي التي عبرت عن حزنها الشديد لرحيل بلكاهية «الذي لم يعد معنا. كان فنان رائعاً وموهوباً، سيفتقده جميع من التقوه».
لقاءات الفنان كانت إنسانية مع المواد أيضاً. ترعرع في قرية أمزميز المتاخمة لمراكش، واختبر الألوان الحمراء منذ البداية، وهي الألوان الذي تشكلت في مادته لاحقاً في حياته. رحل إلى باريس في بداية الخمسينيات لاكتشاف التيارات الجديدة في الفن المعاصر. هناك قرّبه صديق لوالده من الكاتب الفرنسي فرنسوا مورياك، لينغمس في الحياة الثقافية الباريسية ويتشبع بأكثر الأشكال الفنية حداثة داخل «معهد الفنون الجميلة» في باريس. لكن اليسار الذي اعتنقه جعله يغير أدوات تحليله وينتقد النبرة الطاغية للمركزية الأوروبية. هكذا عاود الترحال وهذه المرة إلى براغ. 1959 كانت سنة انتقاله إلى عاصمة التشيك لدراسة السينوغرافيا في «المعهد الوطني للمسرح»، حيث طور آلياته الفنية، ونحت تصوراً خاصاً للفضاء والأشياء.
وفي سنة 1962، عاد بلكاهية إلى المغرب، وأعاد معه كل هذا الوعي النقدي الحاد بطبيعة الفن في المغرب. كانت البوابة لتصريف هذا الوعي هي «معهد الفنون الجميلة» في الدار البيضاء. أدار الفنان المعهد حتى سنة 1974، وهي الفترة التي شهدت فورةً وصعوداً لأسماء فنية مغربية أي منتمية للسياق الثقافي المغربي، وتحاول خلق وعي بصري له خصوصية محلية. هكذا أصدر مع فنانين آخرين بياناً عام 1968. كان لحظة مؤسسة لهذا الوعي المخالف الذي يؤسس للحداثة المغربية. وبعدها مباشرة انتقل ورفاقه إلى تنزيل هذا الأمر إلى أرض الواقع عبر احتلال الفضاء العام الأكثر شهرة في المغرب. إنّه ساحة جامع الفنا. كان لهذا الحدث صدى «ثوري» في الفن المعاصر المغربي.
هذا العمل على فضاء جامع الفنا أعاد له مكانته الخاصة في الواقع المغربي. فعل جماعي كان أداة لتفكيك الفكرة الكولونيالية الفولكلورية عن الفضاء، وإعادة تملكه من طرف المجموعة الفنية. هذا الحدث المؤسس الذي كان بلكاهية من مهندسيه مع فنانين وكتاب آخرين، أعاد تأويل الإبداعات المغربية المعاصرة. الباحث والمثقف إدريس كسيكس يؤكد على هذا الحدث المؤسس الذي يجد صداه في التجارب التشكيلية المعاصرة: «هناك أيضاً فكرة الإشعاع، بدءاً من هذا المكان الأسطوري، في اتجاهين اثنين: نحو الأمكنة المفتوحة للثقافة (في قلب المدينة العتيقة) حيث يقبل الجميع النقاش المُوَاطِن، ونحو أمكنة الإبداع الفني حيث يعاد تأويل الأعمال الأدبية على ضوء الفنون الحيّة والحضرية والبصرية كي تأخذ معنى مخالفاً». حدث مراكش لم يكن الفعل المخالف الوحيد في تجربة بلكاهية. فقد استعاد التقنيات التقليدية المغربية، وخصوصاً النقش على الجلد، ونقش النحاس. لكنه استخلص أشكالاً ورموزاً بصرية خاصة.
لم يتوقف الفنان المراكشي عن الحفر في التراث البصري المغربي. لازمته الألوان الفاقعة التي تحيل على مدينة مراكش. بحث بلكاهية طيلة عقود في الذاكرة. ذاكرة انتصبت كملمح أساسي في عمله الفني، وكانت كل الشموس والأسهم والأشكال اللولبية طريقه إلى «مدينة النحاس».