
وإلى هذه اللوحات الزاهية «المؤسطرة»، ثمة عمل تجهيزيّ (installation) من كثبان من الرمل ذات امتداد مائي، يملأ مساحة كبيرة من الغاليري، إلى جانب فيلم فيديو طويل من نحو 58 دقيقة، لعلّه الجزء الأهمّ والأبرز من المعرض ووسائطه المتعدّدة، يجذب بقوة (رغم طوله) الزائر حتى أنّنا لا نشعر بانقضاء مدة عرضه.
فيلم وائل شوقي «أنا تراتيل المعابد الجديدة» الذي منح عنوانه للمعرض برمته، هو ثمرة تعاون بين الفنان ووزارة الثقافة الإيطالية و«منتزه بومبي الأثري»، يدور حول خلود الأساطير القديمة وتأثيرها المستمرّ في الفكر والإبداع المعاصرين، ويختزل جوهر النقل الثقافي وإعادة تفسير الأسطورة المتجدّدة عبر الأزمات والحضارات. وعلى خلفية آثار بومبي الإيطالية ونهر النيل في صعيد مصر، يظهر ممثلون يضعون على وجوههم أقنعة من السيراميك والورق المعجّن، ويرمزون إلى الناس الذين استوطنوا هذه المدينة التي توالت عليها تأثيرات اليونان والرومان والفراعنة، ويتحرّكون على إيقاعات موسيقية من تأليف الفنان نفسه، فيستدعون حالات التغيير المستمرّة.


الحركة مستلهمة من تقاليد المسرحين اليوناني والروماني القديمين، بين التراجيديا والكوميديا، فوق المدرج الأثري حيث تُروى الأساطير اليونانية، إنّما باللغة العربية. تمتدّ مشاهد العرض لتشمل حقباً زمنية مديدة، مثل جسر يصل بين الحضارات والثقافات وتأثيراتها المتبادلة. نتابع قصة إيزيس المصرية، سليلة الآلهة اليونانية، التي تحيي زوجها أوزيريس عقب اغتياله، وهي معبودة بصفتها الأم الإلهية التي تسعف الموتى في دخول الحياة الآخرة في الأساطير المصرية، حتى قيل إنّ الأيقونات المسيحية مع طفلها يسوع تستمدّ جذورها من صور إيزيس مع ابنها حورس.
يُعيد تفسير الأسطورة المتجدّدة عبر الأزمات والحضارات
ببراعة، يغمر فيلم وائل شوقي المشاهدين بالتجربة الإنسانية العالمية، من دورة الحياة والموت، إلى ثنائية الآلهة الرحيمة والمنتقمة. يتكشّف السرد عن رموز الأساطير والمعتقدات، والخيال الذي ما برح ركيزة يتمّ اللجوء إليها لفهم العالم. ومثلما كتب هِسْيُود (أو هزيود أو هسيودوس) في كتابه Theogony (نشر 730–700 ق. م)، فإن العالم الأسطوري القديم هو أول لحظة عظيمة في تاريخ الفكر الغربي انطلاقاً من بحر إيجه. السكون الآسر يطبع الفيلم من أولّه إلى آخره، يخطفنا إلى سحر العوالم والرموز القديمة، مع إبهار في الأقنعة والأزياء المبهرة والألوان التي تعزّز الجانب الجماليّ. تمرّ الدقائق التي تلامس الستين سريعةً، خاطفةً، كأنّها بضع دقائق، لفتون ينسينا الوقت ويخطفنا من الزمن نحو مخيّلة أسطوريّة مدهشة، منفّذة مشهدّياً وجمالياً خير تنفيذ.
* «أنا تراتيل المعابد الجديدة» لوائل شوقي: حتى 29 كانون الأول (ديسمبر) ــــ «غاليري صفير زملر» (الكرنتينا) ـــ للاستعلام: 01/566550
* عروض فيديو «أنا تراتيل المعابد الجديدة» في المواقيت التالية: الإثنين 9 تشرين الأول (أكتوبر ــ س:16:30)، و11 ت1 (س:16:30)، و13 ت1 (س: 16:30)
ماس الإسكندرية
يعيش وائل شوقي بين مسقط رأسه في الإسكندرية، وفيلادلفيا في الولايات المتحدة الأميركية. في عام 2010، أنشأ «ماس الإسكندرية»، وهي مدرسة مستقلة غير ربحيّة للفن المعاصر، توفّر مساحات للمزاولات الفنية والأبحاث ذات الاختصاصات المتعدّدة وتلقين التفكير النقدي. شاركت أعماله في معارض دولية بين بروكسل وتكساس وفانكوفر وكوبنهاغن وتورينو وفيينا وزيوريخ وإسطنبول، فضلاً عن أبو ظبي ودبي والشارقة والدوحة، والعديد من المدن العالمية والعربية الأخرى. حاز عدداً من الجوائز في ميونيخ وبرلين ولندن، وبيناليات الإسكندرية والشارقة… تشكل أعماله جزءاً من بعض المتاحف في الولايات المتحدة وألمانيا وإسبانيا ولندن (مجموعة تيت) و«غوغنهايم أبو ظبي».