القاهرة | طرح رحيل سميح القاسم سؤالاً على الثقافة المصرية يخص مدى حضور شعره على الساحة الأدبية في مصر. مع انتشار نبأ الوفاة، أول من أمس، احتفت الصحف والمواقع بالشاعر الفلسطيني فجأة بعد تغييبه طوال العقد الأخير على أقل تقدير. المؤكد أنّ بقاء القاسم داخل الأرض المحتلة كان ذا تبعات، أشار هو إليها، مبدياً استعداده لدفع ثمن خياراته، وخيارات الدفاع عن أرضه ووجوده.
«الأخبار» طرحت تساؤلاتها على عدد من الشعراء والمثقفين المصريين المنتمين إلى حقب زمنية ومدارس فنية متباينة. بداية، أوضح الشاعر عبد المنعم رمضان أنّ حضور مَن سمّي «شعراء الأرض المحتلة» كان بارزاً أواخر الستينيات وبداية السبعينيات نتيجة لعقدة 67، وفي محاولة لاستعادة الروح العربية، إذ كتب رجاء النقاش وقتها كتاباً كاملاً عن درويش وسمى ابنه حينذاك سميح. وكشف صاحب ديوان «غريب على العائلة» أنّ ظاهرة شعراء الأرض المحتلة «انتهت بموت القاسم، كونها قرينة فترة تاريخية لم تعد شواغلها وهمومها مسيطرةً الآن»، معتبراً أن درويش خرج مبكراً من عباءة الأرض المحتلة ليكون شاعراً فلسطينياً إنسانياً، مشيداً بدور بيروت ومدارسها الفنية على صاحب ديوان «أثر الفراشة»، فيما بقي القاسم فلسطينياً فقط.
وتابع رمضان: «من أسباب غيابه عن الساحة المصرية، كتاباته التي تكاد تكون نتاج مرحلة فنية واحدة، ما دفعه نحو التجريب في الأشكال الفنية الأخرى ككتابة الرواية وكتابة ما سماه «السرديات» بحثاً عن شكل آخر». وعن علاقته بالقاسم، قال «لم تكن طيبة للأسف، سبق أن كتبت قصيدة عنه أصفه بالفقر والسطحية والسذاجة، كما أنّه خلال إحدى دورات «جائزة كفافيس» اليونانية، شن القاسم هجوماً على الشعراء المصريين؛ على رأسهم صلاح عبد الصبور، فكتبت رداً عليه بعنوان «هياج الدوبلير» منتقداً الثنائية في الثقافة العربية، واعتبرته دوبلير درويش». واستدرك صاحب «بعيداً عن الكائنات» «أحبه بقدر بقائه في الأرض، ولا أحب شعره بقدر ثباته عند نقطة غادرناها».
الشاعر محمود قرني يصف رحيل القاسم بالخسارة للشعر العربي والقضية الفلسطينية، فقد كان «نضال القاسم ودرويش من أهم الأسلحة المعززة للفضاء الإنساني والأخلاقي لقضية شعب مورست ضده أعلى أشكال العدوان». وأوضح صاحب «لعنات مشرقية» أنّ صوت القاسم ودرويش كان الأعلى من كل أسلحة المقاومة، ولعل حلول المقاومة ذات المرجعية الدينية لم يكن ليحدث لولا اهتزاز صورة الشاعر وتراجع قوته في الثقافة العربية. وعن سبب تراجع حضور القاسم، أجاب قرني «الشعرية الفلسطينية والعربية تواجه مأزقاً كبيراً بسبب ارتهان الشعر لشعار جذاب وأخلاقي هو شعار المقاومة. فالشعر يعتاشُ على أطر تقاوم فكرة التكيف والغرض وتقوض الذهنية المستقرة، فيما تضيف المقاومة للشعر صوتاً مجلجلاً، فأصبح لدينا نصوص كثيرة لكن خارج الشعر. وهو ما تتسم به تجربة القاسم الذي أدى مع درويش دوره المختار من قدر صعب وثورة عربية لم تكن بالت على نفسها». وذهب قرني إلى وجود جيل جديد في الشعرية الفلسطينية يدرك قيمة الأسلاف كما يدرك مأزقهم، ساعياً نحو تقديم نص مغاير يكون إضافة إلى القضية.
على صعيد آخر، رأى الشاعر الشاب عبد الرحمن مقلد أن القاسم واحد من أهم الشعراء العرب في العصر الحديث، مشيراً إلى أهمية رؤية الجانب النضالي ودور الالتزام الذي تبناه شعراء فلسطين، إذ استطاع الراحل مع بعض المبدعين مثل درويش وإميل حبيبي وغسان كنفاني وناجي العلي، أن يجعلوا القضية الفلسطينية قضية عالمية إنسانية، تكسب التعاطف الدولي. على المستوى العربي، تحولت قصائده الوطنية إلى أناشيد في التظاهرات، وخصوصاً نشيد الانتفاضة «منتصب القامة أمشي». وبالنسبة إلى تجربته الفنية، وصفها صاحب «مساكين يعملون في البحر» بالمتسعة والمتعددة، مضيفاً «من المهم أن تلقى الأضواء عليها، وعلى النقاد أن يعيدوا قراءتها». وطالب المؤسسة المصرية الرسمية بطباعة مختارات من أعماله، سواء النثرية أو الشعرية، ضمن مشروع «مكتبة الأسرة».




مواقف مثيرة للجدل

كان سميح القاسم من أوائل الشباب الدرزي الفلسطيني الذين تمرّدوا على قانون التجنيد الإلزامي الإسرائيلي، فأسس حركة «الشبان الأحرار» لمناهضة السياسات الإسرائيلية أواخر الخمسينات، إلى جانب عضويته في لجان: «المبادرة الدرزية»، و«حقوق الإنسان»، و«أنصار السجين» و«اللجنة القطرية للدفاع عن الأراضي العربية». وحين عمل مدرّساً في بعض المدارس الابتدائية العربية، أمر وزير المعارف الإسرائيلي بطرده على خلفية مواقفه المناهضة للاحتلال الإسرائيلي. هذه هي المواقف نفسها التي أدّت إلى سجنه مرّات عدة، ووضعه تحت الإقامة الجبرية. ومن ناحية أخرى، فإن آراءه ومواقفه الثابتة المعادية للاحتلال الإسرائيلي، عكّرتها مشاركاته في «مهرجان القدس العالمي للشعر» الإسرائيلي في السنوات الماضية. وتزامناً مع الأزمة السورية، انتقل الانقسام بين السوريين إلى شخصية سميح القاسم، فاسترجع بعضهم مقابلتيه مع حافظ الأسد عام 1997، وبشار الأسد في 2000، كما لم تغب القصيدة التي أهداها إلى حافظ الأسد عن هذا النقاش.