«قال لي القرمطيّ/ على صهوة ضامرة/ حملتُ حدودي/ بلادي انقضاضٌ وجرحي قوافلُ ما تركَتْ رملتي/ قَصَدتُ إِلَى هَجْرَ أَنْ تَكُن الحقَّ/ أو ترتضي ماتمي/ حزنا متخماً بالقبائل والغزو/ كلّ الأقاصي تقصدني/ والقداسات تقرض كفني/ بين حلم أكابد قبل الرحيل/ وقبرٍ بلا جثّة في صهيلي»: أكثر من أربعين عاماً قضاها الشاعر العراقي شوقي عبد الأمير (1949) أو «القرمطيّ التائه» في رحاب الشعر يحفر في كوكبه الشاهق زاويته الصغيرة التي يخلع فيها الشاعر بشرته مثل ثعبان سومري ويغسل صوته بأمطار تهطل من سماء التجربة والحب... الحبّ الذي يتحوّل إلى حِبر يكتب فيه صاحب «حديث لمغنّي الجزيرة العربية» و«أبابيل» الحبيبةَ والدين والتاريخ والأسطورة والسياسة، ويغدو القسّ الذي يعترف أمامه، والمادة التي تُعيد عبرها كتابة الحياة برموزها وقرائنها وجنونها وصوابها. الشاعر الذي بدأ بكتابة القصيدة العمودية باكراً لكن سرعان ما هجرها لصالح قصيدة التفعيلة والأساليب الجديدة، لا يني يستذكر بيت أدونيس الذي ترجمه هو مع كامل كتاب «المطابقات والأوائل إلى الفرنسية»: «كذبوا لم تزل طريقي طريقي والجنون الذي قادني لم يزل أمير جنوني»: التجربة الحافلة التي قضاها ابن مدينة الناصرية بين دراسته الجامعية العليا للأدب الفرنسي في «السوربون»، وانتقاله إلى تدريس اللغة العربية في مدينة جزائرية ساحلية صغيرة قرب الحدود التونسية، وامتهانه العمل الديبلوماسي في اليمن وإعادة افتتاحه «بيت رامبو» كمركز ثقافي فرنسي في اليمن، ناهيك بإشرافه على مشروع كتاب في جريدة لمنظّمة اليونسكو، وعودته إلى بغداد بعد 35 عاماً من المنفى ليتولى إدارة جريدة «الصباح» وإصدار ملحقها الثقافي «بين نهرين»... كلها محطات أسهمت في صقل التجربة وتنويعها لغوياً ومعرفياً وأسلوبياً. لكنّ الأهم أنّ الشاعر لا يزال مسكوناً بجذوة الشعر واللهب ذاته منذ البدايات، وبولعه بالتجارب الإنسانية القديمة، ولا سيما تلك التي انطلقت من أرض الرافدين. إذ يفتتح كتابه الأخير «اللهب الغارق نادو» (مؤسسة أروقة، 2022) بأول بسملة سومريّة «أي ني ما إي ليش» أي «بينما في العلى»، مروراً باستلهامه جلجامش والرقائم في «كتاب الرقائم السبع» (1992) وليس انتهاء بالحركة القرمطية في «حديث القرمطي» (1987)... تلك الحركة المتمردة التي انتشرت في أرض السواد والبحرين والأحساء ووقفت ضد الخلافة والسلطة والمنظور الطقوسي للديانة وقلبت المرتكزات الثقافية والاجتماعية للمجتمع العربي والإسلامي رأساً على عقب.
كتب الحبيبةَ والدين والتاريخ والأسطورة والسياسة


عبد الأمير الذي تعرّف إلى بيروت من خلال قصائد كان يرسلها عام 1972 إلى مجلّة «مواقف» من الجزائر عبر الشاعر محمد طالب محمد الذي قُتل غيلة أثناء العشرية السوداء، ها هو يعود اليوم إلى عاصمة الثقافة والتنوير بمختارات من أعماله الشعرية الكاملة عن «دار النهضة العربية» (مختارات من 450 صفحة)، من بداياته حتى أعماله الأخيرة: «نعرض في هذه الصفحات مسارات شعرية وليس قصيدة واحدة. القصائد البارقة والهشّة بين يدي القارئ تتحدث وتتحاور مع الكائنات. تارة نرى فيها سكينة وطمأنينة وأخرى عابقة على شكل وخز ونفحات. المعجم الذي تقدّمه متنوع تدفعه تلك الموسيقى في الخلف، التي هي موسيقى الشاعر بالضرورة. بالحيرة والغرائبيّة، يقدّم الشاعر شوقي عبد الأمير اقتراحه للشعر والشعرية العربية التي تستهيب في ربط الصور ببعضها. اقتراح تدفعنا قراءته إلى سؤال ملحّ من طراز: ما هي الطريقة التي تعيننا على قراءة هذا الشعر؟ شعرٌ يدخلنا من بداياته في دوامة الألم، وبالتأكيد خيانته. أوليس الشعر سوى هذه الخيانة؟».

* يوقع الشاعر شوقي عبد الأمير مختاراته الشعرية الصادرة عن «دار النهضة العربية» في «صالون خيرات الزين الأدبي» (قريطم، شارع مدام كوري مقابل قصر الحريري) اليوم الخميس بين الخامسة والسابعة مساء ـــ تتخلل الحفلة قراءات شعرية ومداخلات للحضور